فيأمر
الوفد أن لا يحمل إلى سر من رأى بعدها شيئاً من المال ، وأنه ينصب لهم ببغداد
رجلاً تحمل إليه الأموال وتخرج منه التوقيعات ..ويخرج الوفد
(1).
وبقي
جفعر يجتر حقده ..إنه يعلم من هو المقصود بهذه الأموال ، فما هو بالبعيد عن
بيانات أبيه وأخيه ،وقد رأى المهدي (ع) في هذا اليوم وهو يدفعه عن الصلاة .. إذن
فهو المقصود بالأموال .وستصل إليه حين يشاء. وما
دام المعتمد ، معتمده من أول الأمر. بعد أن باع ضميره للسلطات وتمرغ في
أوحال الإنحراف ، فمن المنطقي في نظره أن يشكو وفد القميين مرة أخرى، إلى الخليفة... إنه سيقول له: إتهم دفعوا المال إلى المهدي. وسوف لن تكون هذه
الشكوى ضد الوفد نفسه ، بعد أن وقف المعتمد إلى جانبهم ، بل ستكون ضد المهدي
نفسه ، وتتضمن بكل صراحة تأليباً للسلطات عليه.
وتجد
السلطات بغيتها القصوى وهدفها الأعلى الذي كانت ولا تزال تجد في طلبه فلا تقع
عليه .إنه الآن رهن يديها وقريب المتناول منها... أليس عمه الآن يعرب عن وجوده
ويدل على شاطه .. إنها ستقبض عليه .. وبذلك تستطيع أن تتخلص من الوجود الرهيب
الذي يقض مضاجعها ويملؤها رعباً وفرقاً ، لأنه سوف يبدل ظلمها عدلاً ويحول
جورها قسطاً.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر
إكمال الدين (المخطوط)
صفحة (323)
يفكر
المعتمد بذلك بمنطق المصلحة العليا والمهمة التي يمليها عليه الملك والجانب
الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في دولته ، ويمليها عليه هذا العدد الضحم من
القواد والوزراء والقضاة والعاملين في الدولة، ويمليها عليه سائر المحسوبين
والمنسوبين الى الدولة ، والموالين لها ، والسائرين في خطها بشكل وآخر .فيأتي كل
ذلك في ذهنه ضخماً مجللاً مهما لا يمكنه التخلي عنه بحال من الأجوال ..وأي فشل
ذريع وفضيحة كبرى سوف تناله وتنال دولته لو حصل ذلك ..ولا يمكن أن يحول احترامه
للإمام العسكري (ع) والإيمان بعدالة قضيته ، دون ذلك ، ودون المبادرة إليه بكل
حزم وشدة.
ومن
هنا نرى المعتمد حيت يستمع لكلام جعفر. ووشايته بالمهدي (ع) ، يرسل الخيل
والرجال إلى دار الإمام الحسن العسكري (ع)، فيكسبونه ويفحصون في كل غرفة
ودهاليزه ، فلا يجدون شيئاً، وليتهم يكتفون بذلك، وإنما اشتغلوا بالنهب والسلب
والغارة على ما رأوا من متاع الدار .
وبينما
هم مشغولون بالنهب ، يتحين الامام المهدي فرصة غفلتهم ، ويخرج من الباب ، تقول
الرواية : وهو يومئذ لبن ست سنين – وقد عرفنا انه ابن خمس سنين- فلم يره احد
منهم حتى غاب (1).
ـــــــــــــــــــ
(1)
الخرايج والجرايجص164
صفحة (324)
انهم
لا يعرفون بالتحديد عمن يبحثون واي شخص سوف يجدون، فالفكرة غامضة في اذهانهم
بعيدة عن مخيلتهم ..فلن يكن من البعيد، أن لا
يلتفتوا وهو في نشوة السلب والنهب ، إلى وجود صبي يخرج من بين أيديهم ، بكل
بساطة وبلا ضوضاء .
ولا
يجد هؤلاء الرجال في الدار ، بعد أن تبعثر أصحابها وتشتت شملها إلا الجارية
صقيل أم المهدي عليه السلام ، فيقبضون عليها ويرفعونها إلى الجهات الحاكمة.
ومن
هنا تبدأ المحنة الأساسية لهذه الجارية الصابرة المجاهدة. تلك المحنة التي
واجهتها ، بكل صمود وإخلاص وإيمان .واستطاعت برغم الضغط الحكومي ان تخرج ظافرة
في المعركة ، وأن لا تبوح بالسر العزيز الذي باح به جعفر ، فقد أوجب الله تعالى
عليه كتمانه ،وأبقت ولدها محجوباً مصوناً من الإعتداء.
إنهم ـ
أولاً ـ طالبوها بالصبي ، فأنكرته ،ومعناه أنها ادعت أنها لم تلد ،وأنه لا وجود
لهذا الصبي على وجه الأرض ..إنها تخبر بما لا تعتقد ..ولكنه كذب جائز بل واجب في
الشريعة الأسلامية .فإننا نعرف ان الكذب يكون جائزاً في ما إذا كان سبباً في
إصلاح ذات البين ،ويكون واجباً فيما إذا توقف عليع إنقاذ نفس محترمة من الموت
أو ما دونه من أنواع التنكيل الشديد .. وهو الآن كذلك بالنسبة إلى ولدها المهدي
(ع) .فكيف إذا توقف على هذا الكذب البسيط مستقبل الإسلام وسعادة البشرية وقيام
المهدي بدولة الحق.
وتزيد الوالدة الصابرة الممتحنة في إخفاء ولدها ، وتأخذ الحيطة له. فتدعي ان لها
حملاً. ويقع كلامها في ذهن الحكام موقعاً محتملاً.
صفحة (325)
|