مما يدل على سعي الخلفاء في القضاء عليهم وكتم أنفاسهم ، ولو بالطريق غير المباشر ، مع أنهم لم يستطيعوا أن يحصلوا منهم على أي مستند أو دلالة على مشاركتهم في أي حركة وقيامهم بأي نشاط . فكيف إذا عرفوا منهم ذلك ، وحصلوا منهم على شك في ثورة أو تمرد .

لكن ، لعلنا نستطيع القول ، بأن الأئمة عليهم السلام ، شاركوا من قريب أو بعيد ، بقيام بعض هذه الثورات أو قسم منها ، أما مباشرة أو بحسب عموم تعاليمهم وروح إرشاداتهم التي كانت تؤثر في نفوس مواليهم أثر النار في الحطب والنور في الديجور ، مما يؤدي بهم إلى إعلان العصيان المسلح على الدولة ، ولكن الأئمة (ع) استطاعوا بلباقة تامة وحذر عظيم ، إخفاء أي نوع من المستندات والدلالات على مثل هذا التأثير على الدولة القائمة.وكانوا يستعملون الرموز والمعاني البعيدة والأعمال غير الملفتة للنظر، في قضاء بعض الحاجات الخطرة في منطق الدولة . كما هو غير خفي على من راجع رواياتهم ، وسنعرف بعض ذلك فيما يلي من البحث .

ولعل هناك سبباً آخر ، في عدم دعوة ثوار العلويين إلى شخص الإمام عليه السلام ، وهو أن الثأر منهم ، إن لم يكن على اتصال مسبق بالإمام عليه السلام ، فإنه يحتمل أن لا يكون الإمام موافقاً على ثورته ، لأنه لا يجد فيها المصلحة الكافية والأهلية الكاملة للتأييد . أما لسوء توقيت الزمان ، أو لسوء اختيار المكان ، أو لضعف نيات هذا الثائر وأصحابه وقلة إخلاصهم ، أو لضعف الثورة في نفسها ، بحيث لا أمل فيها للبقاء.


صفحة (79)

 

وغير ذلك من المحتملات التي يأخذها التأُر بعين الاعتبار من رأي إمامه عليه السلام ، فلا يدعو إلى شخصه ، وإنما يدعو إلى عنوان عام ينطبق عليه : الرضا من آل محمد (ص) .

ونحن ـ لأجل الدقة والموضوعية في البحث ـ لا نستطيع أن نقول : إن كل الثوار العلويين ، كان ثائراً بالمعنى الذي يقوم على أساس الوعي الإسلامي ، وهو : الدعوة إلى تطبيق أحكام الإسلام برئاسة الإمام المعصوم عليه السلام . فإنه وإن كان المعتقد أن غرض أكثر الثوار هو ذلك ، إلا أن أفراداً منهم ربما كان منحرفاً عن ذلك أو غير واع له . فكانت ثورته إما للدعوة إلى إمامة نفسه ، أو إمامة شخص آخر غير الإمام المعصوم عليه السلام ، أو لمجرد التمرد على الظلم ، أو لحب الظهور والسيطرة ونحو ذلك من الأهداف .

ولعلنا نستطيع أن نضع الحد الفاصل في فهم إخلاص الثائر وعليه ، في كونه داعياً إلى الرضا من آل محمد (ص) . فإن عرفنا أنه دعى إلى ذلك ، فثورته مخلصة واعية ، وإن لم يدع إلى ذلك ، ينفتح إمامنا فيه احتمال الإنحراف وعدم الإخلاص .

 

وقد أحصينا من الثوار العلويين في العصر الذي نؤرخه ، من خلافة المعتصم إلى نهاية المعتمد ، وهو ما يزيد على نصف قرن ، ثمانية عشر ثائراً .


صفحة (80)

 

أولهم : محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب  ويكنى أبا جعفر ، وكانت العامة تلقبه بالصوفي ، لأنه كان يدمن لباس الثياب من الصوف الأبيض ، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن المذهب  وكان يذهب إلى القول بالعدل والتوحيد ، ويرى رأي الزيدية الجارودية .

خرج في ايام المعتصم بالطالقان، فأخذه عبد الله بن طاهر ووجه به إلى المعتصم، بعد وقائع كانت بينه وبينه (1) . وذلك عام 219هـ ، ودعا إلى الرضا من آل محمد ، ولكن أغراه شخص من خراسان إلى الدعوة إلى نفسه (2) . وهناك قوم اعتقدوا بأنه لم يمت وأنه يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وأنه مهدي هذه الأمة (3). أقول : وسيأتي في بعض بحوثنا إن شاء الله تعالى مناقشة هذه الدعوى وأمثالها .

ثانيهم: يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، المكنى بأبي الحسين (4)، وكانت ثورته لذلك نزل به وجفوة لحقته ومحنة نالته من المتوكل وغيره من الأتراك . وكان ذا زهد وورع ونسك وعلم (5) .

ـــــــــــــــــــــــــ

(1)    المقاتل الأصبهاني ص 411 .    (2)    الكامل جـ 5 ص 232 .

(3)    المروج جـ 3 ص 465 .        (4)    الكامل جـ 5 ص 314 .

(5)    المروج جـ 4 ص 63 .


صفحة (81)

 

ثار عام 250 هـ في الكوفة ، وجمع جمعاً كثيراً ، ومضى إلى بيت المال فيها ليأخذ ما فيه ، وفتح السجون وإخراج من فيها وأخرج عنها عمال السلطان . اجتمعت إليه الزيدية ، ودعا إلى الرضا من آل محمد ، فاجتمع الناس إليه وأحبوه. وتولاه العامة من أهل بغداد ، ولا يعلم أنهم تولوا أحداً من بيته سواه . وبايعه من أهل الكوفة من له تدبير وبصيرة في تشيعهم .

حاربه الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب ، وقتل هذا العلوي في المعركة (1) . وحمل راسه إلى بغداد وصلب، فضج الناس من ذلك ، لما في نفوسهم من المحبة له ، لأمر استفتح به أموره ، بالكف عن الدماء والتورع عن أخذ شيء من أموال الناس ، وأظهر العدل والإنصاف(2) . وأنشدوا في رثائه شعراً كثيراً حتى قال أبو الفرج :

وما بلغني أن أحداً ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب ، رثى بأكثر مما رثى به يحيى ، ولا قبل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه .

أشهرها قصيدة علي بن العباس بن الرومي التي أولها :

           أمامك فانظر أي نهجيك تنهج              طريقان شتى مستقيم وأعوج

وقد ذكرها أبو الفرج بطولها في المقاتل (3) .

ـــــــــــــــــــــ

(1)    الكامل جـ 5 ص 315 .    (2)    المروج جـ 4 ص 63 .

(3)    المقاتل ص 457 .


صفحة (82)