ويتوفى سلام الله عليه، عن تسع وعشرين سنة من  العمر ، وقد سبق أن ذكرنا أن الغالب في البشر أن يكون الفرد في مثل هذا العمر في أوج الصحة والقوة ، فما الذي أودى بهذا الإمام الممتحن الصابر في زهرة شبابه ، غير العمل التخريبي من قبل الجهاز الحاكم ، ولم يكن ينقل عنه ضعف في المزاج أو اعتلال سابق في الصحة أو مرض وراثي ، ولا أي شيء غيره.

وبمجرد أن يعتل الإمام عليه السلام يصل الخبر إلى الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، الذي رأينا الإمام (ع) يزوره في بعض الأيام فيحتفي به حفاوة بالغة .ويقول لولده أحمد حيث سأله عنه :يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره.

وهنا تنتصب أمامنا همزة استفهام كبيرة ...في سبب الوصول السريع لهذا الخبر إلى الوزير .ربما كان ذلك إنتشار الخبر في المجتمع باعتبار شعور المجتمع بالأسف تجاه مرض الإمام عليه السلام .وربما كان عن طريق ما  لديهم من العيون والمخبرين المنتشرين بين أفراد الشعب المطاردين للإمام ومواليه .وربما كان الإطلاع الوزير على سبب مرضه باعتباره ناشئاً من الجهاز نفسه، وهو إلقاء السم إليه من قبل بعض المجرمين من محسوبي الدولة ، والذي يبعد الإحتمالين الأولين ما عرفناه من انعزال الإمام واحتجابه حتى من مواليه وجملة من أصحابه فضلاً عن عيون الدولة ومخبريها ..

 

صفحة (289)

 

فكيف يصل الخبر بمثل هذه السرعة الى الوزير ، ما لم يتحقق الإحتمال الثالث ، وهو علم الوزير بالسبب ،ومن هنا نراه يعرف ويجزم أن الإمام يشرف على الموت، ولا يبدي احتمالاً في شفائه ، وإنما يعيّن له الجماعة التي تلازمه وترقب ساعة موته . فلو لم يكن  يعرف السبب لفكر باحتمال شفائه ولو باعتباره شاباً قوي البنية لا تؤثر فيه الأمراض عادة.

وعلى أي حال ، فهو يركب من ساعته الى البلاط ..دار الخلافة ..لكي يخبرالخليفة بمرض الإمام (ع) ويستصدر منه الأمر بتعيين جماعة من خدمه الثقات لديه للإشراف على حال الإمام ومراقبته في صورة القيام بخدمته وتنفيذ حاجاته ، وهكذا كانت السياسة العباسية تجاه الإمامين العسكريين ،وكان الإكرام والإعظام يستبطن دائماً قصد المراقبة والمطاردة والتنكيل .وقد رأينا ذلك من المتوكل تجاه الإمام الهادي عليه السلام ، بكل وضوح ،ونراه بوضوح الآن أيضاً.

ثم يرجع الوزير مستعجلاً ، ومعه خمسة من خدم المعتمد كلهم من ثقاته وخاصته، منهم نحرير الخدم. ومن نحرير هذا! أنه الذي تولى سجن الإمام عليه السلام في يوم من الأيام ، وكان يضيق عليه ويؤذيه، وحلف: والله لأرمينه إلى السباع .

ويأمرهم الوزير بلزوم دار الحسن عليه السلام وتعرف خبره وحاله، فإن الإمام في مثل هذا الحال يحتاج إلى الرعاية الدائمة والدولة تحتاج إلى الإتصال الدائم بإخباره ومعرفة ساعة وفاته .وتحتاج إلى معرفة أمر آخر ..أعمق من ذلك وأعقد .. وهو السر العميق الذي لا زال الإمام(ع) يحافظ على كتمانه خمسة أعوام متطاولة ....وهو وجود ولده المهدي (ع).

 

صفحة (290)
 

 

فلعل بقاء الخدم الخمسة في الدار ومرابطتهم الدائمة فيها .. تنتج ولو صدفة – إطلاع أحدهم على أي تصرف مريب أو على أي همزة للإستفهام تدل  الطريق على الإمام المهدي عليه السلام.. والدولة كما عرفنا ، لم تكن مطلعة إلى ذلك الحين على ولادته ..ولكنن قلنا أنها كانت تعرف الحق ، وتعترف في دخيلة ضميرها بصدق الإمام ..فهي تتوقع – بكل وضوح- إنجاب الإمام العسكري (ع)) للمهدي وها قد أوشكت حياته على الإنتهاء ، ولم يبلغها وجود ولده ،إذن فهي تحاول جاهدة أن تعرف ..وأن تنسم الهواء .وأن تتشمم الأنباء عن ذلك بكل طريق .

وبعث الوزير إلى نفر من المتطببين ، فأمرهم بزيارته وتعهده صباحاً ومساءً .إلا أن طبهم لم يكن مجدياً ورأيهم لم يكن حصيفاً ...ولعلهم لم يباشروا العلاج بشكل حقيقي يتوقع ممه الشفاء ، فإنه لم يمر إلا يومين أو ثلاثة حتى أوصلوا الخبر إلى الوزير بأن الإمام قد ضعف وأن حاله قد ثقل ..فأمر هؤلاء الأطباء بملازمة داره وعدم مغادرته.

وبعث إلى قاضي القضاة ،وهو على ذلك الحين : الحسين بن أبي الشوارب الذي تولى هذا المنصب منذ عام 252هـ(1) فأحضره إلى مجلسه فجاءه ابن أبي الشوارب ، فأمر الوزير ان يختار عشرة ممن يوثق بدينه وورعه وأمانته ... فاختارهم له وأحضرهم.

ـــــــــــــــــــ

(1) الكامل ج5 ص334

 

 صفحة (291)