فأرسلهم الوزير إلى دار أبي محمد الحسن عليه السلام ..حيث الإمام المريض(ع) وأمرهم بملازمته ليلاً ونهاراً. إذن فقد أصبح عدد الملازمين له – سوى الأطباء – خمسة عشر نفراً من قبل الدولة ، وكلهم في حالة مراقبة وإنصات وتأهب ، ويبقون ملازمين له حتى يتوفى عليه السلام.(1)

ولكن وجود هؤلاء القوم في الدار ، لم يمنع الإمام  من أن يتفرغ في ليلة وفاته في إحدى غرف الدار ، لأجل كتابة عدد كبير من الكتب إلى المدينة ... وأن يرسل رسولاً إلى المدائن بكتبه ..كل ذلك لأجل حفظ عدد من المصالح الأجتماعية والتخطيط لها إلى ما بعد وفاته عليه السلام.

وإذ يطلع الفجر من اليوم الثامن من ربيع الأول ، لا يكون ساعتئذ معه في الغرفة إلا صقيل الجارية ، وهي نرجس أم المهدي عليه السلام ،وعقيد الخادم ،وهو من خدم الإمام عليه السلام – تقول الرواية -: من علم الله عز وجل غيرهما .تشير إلى وجود ولده المهدي عليه السلام أيضاً معهم .

فيأمر الإمام عليه السلام أن يؤتى بماء مغلي بالمسطكي ، فجاؤا به في قدح .فيقرر الإمام البدء بأداء الصلاة أولاً ..ويأمرهم بأن يساعدوه .فجاؤا له بمنديل وبسطوه في حجره لأجل الوضوء .فيأخذ عليه السلام من صقيل الماء ويتوضأ ويصلي صلاة الصبح على فراشه ...

ـــــــــــــــــــ

(1) انظر الإرشاد ص319


 
صفحة (292)
 

وإذ ينتهي من الصلاة يأخذ القدح لكي يشرب ، فيستولي عليه ضعف المرض ، فترتجف يده ، ويضرب القدح ثناياه مع حركة اليد الرتيبة ،ولم يستطع أن يستمر بالشرب ،فتأخذ صقيل القدح من يده .فيستلقي ويسلم الروح من ساعته صلوات الله عليه(1).

وبذلك نفهم أن الإمام استطاع بطريقته في الإخفاء والرمزية ، وبلبلقته الإجتماعية ..أن يقضي الرجال الخمسة عشر، عن مجاوراته ويحجبهم عن أموره الخاصة، فيكمل ما ينبغي أن يقوم به من أعمال قبل أن تدركه المنية ، ثم يتوفى بمعزل عنهم.

وإذا كان هذا النشاط الذي قام به ، قد خفي عليهم ، فمن الأولى والأوضح أن يخفقوا في مهمتهم الأساسية..، يبقى ما هو أهم في الإخفاء وأعمق في عور الإبهام عليهم .. وهو وجود المهدي عليه السلام ..يبقى في حجابه وخفائه .. لم يستطيعوا أن يجدوا له أي أثر أو يقعوا على ما يؤدي إليه أو يدل عليه.

 

وبمجرد أن يذاع خبر وفاته في سامراء ،وهي البلدة التي يؤمن كل من فيها بأن الإمام خير من فيها علماً وزهداً وعبادة ونسباً ، لا يختلفون في ذلك باختلاف مناصبهم وأعمالهم باختلاف ولائهم وعدائهم .فمن الطبيعي لهذه البلدة وهي تفقد هذا الرجل العظيم أن تضج ضجة واحدة ، وإن تعطل أسواقها ، وأن يجتمع الناس للشهادة والسير في جنازة الإمام عليه السلام .حتى كان ذلك اليوم شبيها ً بيوم القيامة وركب بنو هاشم والكتاب والقضاة والمعدلون إلى جنازته وتجهيزه .

ـــــــــــــــــــ

(1) انظر الإكمال ( المخطوط)
 

 صفحة (293)
 

وإذ يفرغون من تهيئته وتجهيزه، يبعث الخليفة المعتمد إلى أخيه أبي عيسى بن المتوكل ، فيأمر بالصلاة عليه. فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه ، دنى أبو عيسى  منه ، فكشف عن وجهه ، فعرضه على الحاضرين من بني هاشم من العلويين والعباسيين والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين وقال – ما أطرف ما قال ‍- هذا الحسن بن علي بن الرضا عليهم السلام ، مات حتف أنفه على فراشه .

وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن  القضاة فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان . ثم غطى وجهه وصلى عليه وأمر بحمله.

إن ذهن الجهاز الحاكم ، المتمثل الآن بأبي عيسى بن المتوكل ، مشحون بالتوجس والحذر، مما يرونه مرتسماً في أذهان الناس بوضوح ، وإن لم تصرح به الأفواه ،وهو التهمة للجهاز الحاكم بأنه هو الذي سبب موت الإمام عليه السلام بشكل أو آخر ، لأنه كان يمثل دور المعارضة الصامدة الصامتة ضده .ولعلنا نستطيع الآن أن نلمس اللاعج الكبير الذي يختلج في ذهن الجهاز الحاكم بعد أن أجهز على الإمام فعلاً وتسبب إلى موته حقيقة ..إنه يريد – بأي طريق – أن يبقى هذا الأمر في غاية الخفاء ،وأن يبقى ثوبه ، على المستوى العام ..

ـــــــــــــــــــ

(1) انظر الإرشاد ص320


 
صفحة (294)