ومن ثم سار الامام على مخطط معين ، توصل به إلى كلا الغرضين وحقق كلا الهدفين كما سنرى ونستطيع ان نقسم نشاط الامام عليه السلام حول ذلك إلى قسمين: أحدهما: نشاطه بلحاظ ولادة المهدي (ع) وتربيته وصيانته وحجبه عن أعين الناس مع إظهاره لبعض خاصته ونحو ذلك. ثانيهما: بيانه لفكرة الغيبة وافهام الناس تكليفهم ومسؤوليتهم الاسلامية تجاهها . وتعويدهم على متطلباتها .

أما القسم الأول فمن المستحسن ارجاء الحديث عنه إلى الفصل الرابع الآتي حين نتعرض لتاريخ المهدي عليه السلام خلال حياة أبيه ، وسنرى حينئذ المواقف التفصيلية التي اتخذها الامام العسكري عليه السلام تجاه ولده .

وأما القسم الثاني فهو الذي يحسن التعرض له في المقام ، وهو ما يعود إلى موقفه عليه السلام تجاه الآخرين في مخططه للتمهيد للغيبة ، بإعتبار المهام الكيرى التي أشرنا اليها .

ويمكن تحديد نشاطه عليه السلام في هذا السبيل ضمن نقاط ثلاث: النقطة الاولى: تعاليمه وبياناته عن المهدي، كحلقة من تبليغات آبائه واجداده عنه عليه السلام . مع زيادة جديدة تخص الامام العسكري (ع) بصفته الوالد المباشر للمهدي والمخطط الأخير لغيبته .


صفحة (214)

وتتخذ هذه البيانات على لسان الامام أشكالاً ثلاثة :

الشكل الأول : بيان علم كبيانات آبائه عليهم السلام ، في صفات المهدي بعد ظهوره وقيامه في دولة الحق.

فمن ذلك قول الامام العسكري عليه السلام في جوابه لبعض أصحابه حين سأله عن القائم إذا قام بم يقضي واين مجلسه الذي يقضي فيه . فكتب عليه السلام : سأل البينة (1).

واود أن أشير في هذه الرواية إلى جهتين:

الجهة الأولى: ان السؤال والجوب بين السائل والامام (ع) كان بطريق المكاتبة لا المشافهة. وهذا تطبيق لسياسة الامام في الاحتجاب تمهيداً لفكرة الغيبة على ما سنعرف .

الجهة الثانية : ان المزية الرئيسية لقضاء داود عليه السلام هو عدم المطالبة بالبينة ، حيث تراه قال للمدعي: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجة (2) . من دون ان يلتفت إلى صاحبه فيسأله عن رأيه ولا ان يطالب المدعي بالبينة المثبتة لدعواه.

وعلى أي حال ، فتطبيق ذلك من قبل المهدي عليه السلام يتوقف الجزم به على صحة هذه الروايات التي اعربت عنه. وفي بعضها ما يدل على انه عليه السلام يقوم بذلك بعد ظهوره مرة واحدة امتحاناً لأصحابه وستيثاقاً منهم ؛ كما كانت نفس الحادثة بالنسبة إلى النبي داوود عليه السلام امتحاناً له (وظن داوود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) . ولعلنا نعرض إلى تفصيل ذلك في بعض بحوثنا الآتية (3) .

ــــــــــــــــــــ

(1)  انظر الارشاد ص 323 .     (2)  الورة 38/24 .

(3)  انظر الكتاب الثالي من هذه الموسوعة .


صفحة (215)
 

الشكل الثاني: ان يتخذ بيان الامام (ع) عن المهدي شكل النقد السياسي لبعض الأوضاع القائمة آنئذ ، مقترنة بفكرة ان المهدي (ع) حينما يظهر فانه بأمر بتغييرها . وكل ما يأمر المهدي بتغيره فهو باطل للتسالم على كون حكمه قائماً على العدل الاسلامي ، كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله .

فمن ذلك قوله علية السلام: اذا خرج القائم يأمر بهدم المنابر والمقاصير التي في المساجد .. والمقاصير غرف معينة بناها الخلفاء في المساجد حتى يصلّوا فيها بإمامة الجماعة منفصلين عن جماعتهم ، لأجل حفظ غرضين من اغراضهم هما الأمن اثناء الصلاة من الاعتداء وزرع الهيبة في نفوس الآخرين. وهذا العمل مما يعتقد الامام بطلانه ، ولا زال من واضحات الفقه الامامي فساد الجماعة إذا صليت بإنفصال الامام عن المأمومين . ومن ثم يكون من الحق ان يأمر المهدي بإزالة ذلك عن الوجود .

غير اننا نجد الراوي لم يفهم الوجه في ذلك ، وتساءل في نفسه مستغرباً : لأي معنى هذا ، فيقبل عليه الامام ويقول : معنى هذا انها محدثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجة (1) .

الشكل الثالث: ان يتخذ بيان الامام شكل الوصية العامة والنصيحة التوجيهية الكبيرة، لقواعده الشعبية. وإعطائهم الفكرة الصحيحة الحقة، فيما هو تكليفهم الاسلامي في سلوكهم النفسي والاجتماعي، تجاه ما سيعانونه ، من غيبة امامهم وانقطاعهم عن القيادة المعصومة ردحاً من الدهر.

ـــــــــــــــــــــ

(1)  المناقب ج 3 ص 536 .


 صفحة (216)