نعم .. يستثنى من ذلك – بشكل وآخر – رجال الفكر في ذلك العصر وقادة النهضة العلمية فيه .. بما فيهم أصحاب الأئمة عليهم السلام الذين تربوا على توجيهات الامام العسكري وآبائه عليهم السلام . إلا أن ذلك لا يكفي في تحقيق الغرض المنشود ، فان فكرة الغيبة يجب ان تكون عامة بين سائر الناس وليست خاصة برجال العلم والفكر والنظر.

والغيبة ، التي يجد الامام نفسه مسؤولاً عن التخطيط لها ، حادث قليل النظير في تاريخ البشرية ويحتوي إلى حد كبير على عنصر غيبي، خارج عن حدود المحسوس والمعتاد من الحياة فان عنصر اختفاء المهدي (ع) وان امكن تفسيره تفسيراً طبيعياً (1) إلا ان طون عمره متمحض بالارادة الالهية الخاصة وبالعامل الروحي النازل من فوق الكون المنظور .. لأجل حفظ مصلحة الاسلام العليا ، وانجاز يوم الله الموعود .

اذن فستكون الغيبة التي يمهد لها الامام العسكري (ع) أمراً غريباً على الاذهان بعيداً عن الطباع ، يحتاج إلى تكرار وتفهيم وجهد مضاعف كبير.

وكانت الارهاصات المسبقة والتبليغات المتوالية عن المهدي .. متتابعة متواترة عن النبي (ص) .. رواها مؤلفوا الصحاح وهم معاصرون أو متقدمون على هذه الفترة بما فيهم البخاري ومسلم واحمد بن حنبل . ومتتابعة متواتره عن الأئمة عليهم السلام يرثها أصحابهم جيلاً بعد جيل حتى أصبحت من ضروريات المذهب بل من قطعيات الاسلام .. وكان كل امام يقوم بدوره الكافي في التبليغ والارشاد إلى هذه الفكرة الكبرى .

 ــــــــــــــــــــــ

(1)   على ما سوف يأتي في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة  .


صفحة (211)

 

وقد كان لكل هذه التبليغات أثرها الكبير في ترسيخ فكرة المهدي في نفوس المسلمين بشكل عام .. يأخذ كل فرد منهم ما يناسبه منها بحسب عمق ايمانه وسعة تفكيره واتجاه مذهبهه في الاسلام . وستعرف انها استطاعت أن تثير اهنمام السلطة الحاكمة بشكل حاد ومركز، لا بالايمان بها، بل بالوقوف ضدها ومحاولة القضاء عليها.

فالامام العسكري عليه السلام ، وهو يواجه المسلمين بهذه الفكرة ، يجد بالرغم من اخلادهم إلى مصالحهم ونحرافهم وحدود حسهم .. يجد عندهم مسبقات ذهنير وقاعدة فكرية مشحونة بالايمان بفكرة المهدي والاعتقاد بإمكان وقوعها ، مما يجعل له ارضية ممهدة للسير من قبله بهذا الشوط إلى نهايته.

وانما الأمر الكبير الذي يتحمل الامام العسكري عليه السلام مؤوليته ، بصفته والداً مباشراً للمهدي (ع) .. هو فكرة التطبيق وانهم قد اظلهم زمان الغيبة وأوشكت على الوجود والتنفيذ . وهو أمر صعب بالنسبة إلى الفرد العادي استطيع ان اسميه ب (الصدمة الايمانية) . فإن هناك فرقاً كبيراً في منطق ايمان الفرد العامدي بين ايمانه بالغيب بشكل مؤجل لا يعلم امده إلا الله تعالى ولا يكاد يحس الفرد بأثره في الحياة .. وبين الايمان بالغيب مع اعتقاد تنفيذه في زمان معاصر ويكفيك ان تتصور نفسك وحالتك الايمانية الوجدانية إذا اخبرك شخص لا تشك بصدقه بقرب حدوث يوم القيامة مثلاً أو قرب موتك مثلاً . فإن مثل هذا الخبر يعتبر صدمة للايمان لأنه يحتاج إلى مؤونة زائدة وقوة مضاعفة من الايمان والارادة والتفكير .. ويحتاج الفرد فيه إلى حشد كل ما في نفسه من قوى الايمان ومقدمات البرهان . بالشكل الذي يسعفه بالقناعة بأمر غيبي كهذا .

 

صفحة (212)

 

ومن ثم كان غلى الامام ان يبذل جهداً مضاعفاً لتخفيف هذه الصدمة وتذليلها ، وتهية الذهنية العامة لتقبل الفكرة الجديدة ، وتعويد أصحابه على الالتزام بما تتطلبه الغيبة من انحاء من العقيدة والسلوك . وخاصة وهو يريد تربية جيل واع . متحمل للمسؤولية تجاه ذلك ليكون هو البذرة الاساسية لتربية الاجيال الآتية ، التي ستبني بجهدها – الغث والسمين – تاريخ الغيبيتين : الصغرى والكبرى .

فإذا عطفنا على ذلك ، ما عرفناه من ظروف الامام وأصحابه ، والمعانات الصعبة التي كانوا يعيشونها من قبل الدولة. واخذنا بنظر الاعتبار ان فكرة المهدي - وهي الفكرة الاصلاحية الثورية الكبرى – تعتبر في منطق الحكام ، امراً مخوفاً يهدد كيانهم ويقض مضاجعهم ، ويعتبر التصريح بها والدعوة اليها خروجاً على قانونهم وتمرداً على أساس دولتهم .. على حين كان الامام قد اتخذ سياسة السلبية والسالمة مع الدولة، وعدم مصارحتها بالخلاف .

من كل ذلك نستطيع ان نتميز  بكل  وضوح دقة مهمة الامام عليه السلام وصعوبة موقفه ، في التوفيق بين سلبيته تجاه الدولة ، وبين ايضاح فكرة المهدي للجيال .
 

صفحة (213)