فكان تارة يتبرع بالمال ، كما سمعنا، واخرى يقوم بالتوجيه الفكري العقائدي ، لأجل تصعيد روح التضحية والجهاد والصبر على المصاعب في سبيل الحق الكبير والهدف العظيم ، تحت قيادتة الرشيدة ، فيقول : الفقر معنا خير من الغنى مع غيرنا . والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا .. ونحن كهف لمن أعتصم بنا . من احبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار(1) .

ومن ذلك ان اباهاشم ، وقد عرفناه من خاصة أصحاب الامام عليه السلام ، حين يرى معالم الانحراف في المجتمع واتباع المصالح والشهوات ، وهو يعلم ان حزب الله هم المفلحون وان حزب الشيطان من أصحاب السعير .. يقول : اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرته ان كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدقاً وباوليائه عارفاً ولهم تابعاً .. ثم ابشر(2) .. فهذا هو الانسان الذي يكون في حزب الله .. عادلاً واعياً .. يمثل في عقيدته وسلوكه المستوى العالي للتطبيق الاسلامي العادل .. ومن ثم يستحق البشارة ببلوغ قصده ونيل الرضا به ، والخلود في الجنة في منتهى شوطه .

ــــــــــــــــــــ

(1)   كشف الغمة ج 3 ص 211 .

(2)   اعلام الورى ص 355 .

 

صفحة (208)

 

ولا يخفى ان هذه التعاليم الاسلامية الواعية ، لم يكن يبلغها الامام إلا للخاصة من أصحابه ، الذين يتحلون بالصمود تجاه الضغط الحكومي والحفاظ على هذه التعاليم وعدم بثها في متاهات الانزلاق والشبهات .

أما سائر القواعد الشعبية الموالية ، فكانت محرومة بشكل عام ، من هذا التوجيه العالي الواعي . وذلك لعدة أسباب اهمها امران: اولهما: ما خطته الدولة للامام من الانفصال عن قواعده الشعبية بتقريبه إلى البلاط ودمجه في الحاشية وقد كان رفض ذلك من قبله عليه السلام منافياً لسياسة السلبية تجاه الدولة التي اختطها وآباؤه منقبله. وثانيهما: ان الفرد العادي لهذه القواعد يعيش المعترك بكل ثقله ، ويصف عادة بضعف الارادة تجاه التيار الحكومي. فمن المحتمل ان يتسرب منه هذا التوجيه الواعي المضاد للدولة و(الخارج على القانون!!) إلى الجهات الحاكمة . وهو ما لا يريده الامام عليه السلام .

 

الموقف الرابع:  تمهيده عليه السلام لغيبة ولده المهدي (ع) .

ان الامام الحسن العسكري عليه السلام حين يعلم بكل وضوح تعلق الارادة الالهية الازلية بغيبة ولده لأجل أن يكون مذخوراً لاقامة دولة الحق وتطبيق العدل الاسلامي على الانسانية . والأخذ بيد المستضعفين في الأرض والموتورين من دول الظلم والانحراف ... ليتبؤا فيها حيث يشؤون .. يبدل خوفهم أمناً .. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً .. فيؤسسوا بذلك دولة المؤمنين المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

  

صفحة (209)

 

حين يعلم عليه السلام بذلك .. يعرف ان عليه جهداً مضاعفاً ونشاطاً متزايداً في التمهيد لغيبة ولده . والسبب في ذلك: ان البشر – بشكل عام – مربوطون في مدركاتهم بالحس والعادة التي يعيشونها وفي حدود الزمان والمكان. ومن الصعب على الشخص الاعتيادي ان ينظر نظراً معمقاً تدريدياً، أسمى من هذه الحدود ، ما لم يطلع الفرد على البرهان الصحيح المدعم بالايمان الراسخ القائل: بأن الكون أوسع من العالم المنظور ومن حدود الزمان والمكان .. وان في عالم الوجود قوى كبرى وارادات واسعة ، تستقي تدبيرها وادارة شؤونها من الارادة الازلية والحكمة اللانهائية .. من الله تعالى .

والانسان كلما سما روحياً ، وتعمق فكرياً ، استطاع استجلاء هذه الحقيقة الكبرى أكثر ، كما انه كلما تسافل روحياً وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وتغافل هن صوت عقله .. كلما كان ابعد من ذلك وأكثر انشداداً إلى حسة وعادته .

ولم يكن المجتمع الذي يعيشه الامام عليه السلام .. لم يكن – بشكل عام – إلا متكونا من الانسان المتسافل روحياً المشدود إلى مصالحه وخدمة ذاته واتحرافه بعيداً عن عمق الايمان وهن سمو الروح ودقة الفكر. لا يختلف في ذلك الحاكم هن المحكوم والمولى هن العبد . ولعل فيما استعرضناه في الفصل الأول من التاريخ العام لهذا العصر ما يعطي فكرة واضحة عن ذلك .
 

 صفحة (210)