النقطة الثالثة : موقف الإمام من صاحب الزنج . نستطيع أن نحلل موقف صاحب الزنج نفسه إلى ثلاثة أمور:

الأول : خروج على الدولة العباسية وخلافتها.

الثاني: زعمه الإنتساب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .حيث زعم أنه علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(1).

الثالث: خروجه على القانون الإجتماعي السائد بما فيه تعاليم الدين الإسلامي نفسه ، من قتله الرجال وسلبه الأموال وإحراقه المدن وسبيه النساء ، كل ذلك بالجملة وبلا حساب ولأعداد الآلاف لا الآحاد والعشرات.

أما ألأمر الثالث : فموقف الإمام عليه السلام منه واضح كل الوضوح وهو الإستنكار والرفض التام القاطع لكل تلك الأعمال، على أساس منافاتها الفاضحة لعدالة الدين وتعاليم سيد المرسلين ، تلك التعاليم التي يمثل قمتها العليا في نظره – على الأقل – .

ونحن في غنى في معرفة ذلك عو وروده في الروايات .وستأتي الإشارة إلى سبب سكوت الإمام عنه ، مضافاً إلى وضوحه وأخذه مسلماً ومفروض الصحة بينه وبين أصحابه.

وأما الأمر الثاني: فهو الذي وردنا عن الإمام عليه السلام نفيه فإنه بصفته أعظم فرد في عصره من الذرية العلوية، يكون هو المسؤول عن إيضاح نسبة هذا المدعي وبطلانها .وبخاصة بعد أن توجه السؤال إليه في ذلك.

ــــــــــــــــــــ

(1) الكامل ج5 ص346 وغيره.


صفحة (184)

 

 فأجاب قائلاً : - ضمن كلام له- : وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت (1).

ولا يخفى ما في تجريده عن هذه الصفة من سوق رائجة عند الناس ، فإن العقل والشرع وإن حكما بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى" وإنه لا نقص في الأب إذا كان أحد ذريته منحرفاً ظالماً .كيف وإن إبراهيم الخليل على نبينا وعليه السلام كان له ذرية ظالمون، أخرجهم الله تعالى عن عهده بقوله عز من قائل" لا ينال عهدي الظالمون : .إلا أن الجمهور سوف يقول ما يشاء ويلوك العلويين بما هم منه براء .ومن ثم نستطيع أن نتصور أثر ادعاء صاحب الزنج الإنتساب إليهم ،وأثر تكذيب الإمام (ع) إياه.

ولم يسأل الإمام عن التفاصيل السياسية لثورة الزنج لعدم تحمله مسؤولية بيانها باعتباره ليس حاكماً ولا في طريق الحكم .وكل من يكون كذلك لا يكون مسؤولاً عن بيان آرائه السياسية كما أسلفنا.

مضافاً إلى أن نقد صاحب الزنج في تفاصيله يحتوي على تأييد ضمني للدولة ،وبخاصة إذا عرفنا أن المنازل له في حومة القتال هو الموفق الذي خشي عبيد الله بن خاقان ان يجتمع بالإمام في مجلسه – فاستنكار ثورة الزنج يجب أن يعطى من قبل الإمام بحذر بالغ بشكل لا يستشعر منه ذلك التأييد .فإن الأمر الأول الذي ذكرناه لصاحب الزنج وهو خروجه على الدولة العباسية ووقوفه منها موقف المعارض ، أمر يتبغي المحافظة على معنويته .

ــــــــــــــــــــ

(1) المناقب ج3 ص529


صفحة (185)

 

 من حيث كونه مؤدياً إلى إضعاف الحكم وكسر شوكته. وهذا معنى الفكرة القائلة :بأن المعارضين – مهما اختلفوا- يشتركون في مناوئة الوضع القائم.

على ان هناك فائدة أخرى قد ينالها الإمام وأصحابه من وراء حركة الزنج .فهي في نظرهم وإن كانت واقعاً مؤسفاً إلا أنها حقيقة واقعة يمكن استغلالها .وذلك، لأن الدولة لم تكن من القوة بحيث يمكن أن تحارب في جبهتين ،وأن تعطي لكل جاهة ثقلها المطلوب.

إذن فاتجاهها لحرب الزنج يعني – إلى حد ما – خفة الضغط على الإمام وأصحابه .ولكننا يجب ألا نبالغ في ذلك فإن الدولة كانت تبذل المستحيل في سبيل صد نشاط الإمام والوقوف ضده ، بل أنها أتراه- في واقعه – أشد خطراً وابعد أثراً من الزنج .وهي – على أي حال – لا تتكلف تجاه الإمام وأصحابه حرباً حقيقية وإنما غاية ما تتكلفه هو البذل على التجسس والسجن والتشريد ، وهو أنر لا ينافي القيام بالحرب في جبهة أخرى .

النقطة الرابعة : موقف الإمام من ساجنيه .

وأقصد بهم من يتولى سجته والإشراف عليه من قبل الدولة ، فقد كان عليه السلام يقيم عليهم الحجة الواضحة التي يجعلهم بها يؤمنون به أعمق الإيمان ، وبالتالي، بجريمة من أمر بسجنه ورضي به.

إلا أنه كان يقيم الحجة بطريق غير مباشر، لا يستخدم فيه الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..وإنما يقيمها بأفعاله ...بعبادته ... بزهده ... بالآيات التي يتعمد إقامتها أمامهم بكل بساطة وهدوؤ .

 

صفحة (186)