|
||
|
ومن ثم نرى أن السجان حين يؤمن به ، يختص إيمانه بشخص الإمام من دون ثقافة تفصيلية ، تلك الثقافة التي لم تكن متوفرة عند أمثال هؤلاء إلا بأقل القليل .ما لم يفترض ان الإمام يستطيع أن يزرق إليه بالكناية ولباقة التعبير بعض التوجيهات ، وخاصة بعد أن أصبح السجان وهو عين الدولة عليه – موالياً له لا يحتمل في شأنه أن يشي به. فمن ذلك أنه حبس أبو محمد عليه السلام عند علي بن اوتامش، وهو أحد الأتراك في العاصمة العباسية ، وكان شديد العداوة لآل محمد عليهم السلام غليظاً على آل أبي طالب ..فما أقام إلا يوماً حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره إجلالاً وإعظاماً ،وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه(1). وهذه الرواية ، والتي نذكرها بعدها أيضاً، تهملان ذكر الخليفة الذي أمر بسجن الإمام هذا من فجوات التاريخ التي يصعب الوقوف فيها على امر يقين . ومن ذلك أنه عندما حبس الإمام عليه السلام ، دخل العباسيون على صالح بن وصيف فقالوا له : ضيق عليه. فلم يستنكر ابن وصيف ذلك، إلا أنه اراد أن يعلن اعتذاره عن عجز عن التضييق عليه ، فقال: وكلت به رجلين من شر من قدرا عليه :علي بن بارمش واقتامش ...فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم يضعان خديهما له. ــــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة ج3
ص302 صفحة (187)
ثم إن ابن وصيف أمر بإحضارهما لإستجوابهما أمام النفر العباسيين عن هذا لتغير الذي طرأ عليهما .فقال لهما: ويحكما! ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فانظر بماذا أجابا وكيف يكون قولهما دعاية تلقائية صافية للإمام (ع) أمام هؤلاء المتعنتين .فقد قالا: ما نقول في رجل يقوم الليل كله، ويصوم النهار لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة .فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا(1). ولعلك لاحظت معي معنى عجز الدولة عن التضييق عليه في سجنه .فإن أمرنا تجاه الإمام الثائر دار بين شيئين : فأما أن تقتصر في الإشراف عليه على فرد أو أفراد معينين يواكبون كل الأيام التي يقضيها الإمام في سجنه، فهؤلاء سيصبحون بعد قليل من الإندفاع تجاه الإمام بحيث يعد من المستحيل إقناعهم بتعذيبه والتضييق عليه، فلربما قدموا نفوسهم دونه أو عذابهم على راحته ، أو اشتغلوا بالعبادة عن تنفيذ ما يوجه إليهم من أمر بهذا الخصوص. وإما أن ترى الدولة ضرورة تجنب ذلك فتستعين بكثيرين يقوم كل يوم واحد أو أكثر في الإشراف على السجن. فهذا يكون أنكى عليها ، لأن هؤلاء برمتهم سيؤمنون بالإمام ،ويصبحون- بشكل أو بآخر – من قواعده الشعبية ومؤيديه. ثم أنه من المعتقد أن كلتا الروايتين تعربان عن حادثة واحدة لسجن الإمام عليه السلام ، إلا أن الثانية توسعت في النقل أكثر فاقتصرت الأولى على بيان حال علي بن اوتامش مع الإمام . ــــــــــــــــــــ (1) المناقب ج3ص530
فإذا تم احتمال: أن يكون المراد من علي بن بارمش في الرواية الثانية هو علي بن اوتامش نفسه، مع حصول التحريف في نقله.إذا تم ذلك لم يبق أي تهافت بين الروايتين – أما صالح بنوصيف فلم يكن هو السجان وإنما كان بمنزلة مدير السجن ،اما الإشرا ف المباشر فلعلي بن أوتامش وصاحبه. النقطة الخامسة : موقفه عليه السلام من عامة من لا يؤمن بإمامته ، وبخاصة الموالي والأتراك ، لأجل إقامة الحق أو دفع الشبهات ،ونحن هنا في غنى عن الإشارة إلى ما سبق أن عرفتاه في تاريخ أبيه عليه السلام ،من أهمية هذا الموقف في زيادة المخلصين له وتوسيع قواعده الشعبية ... وبالتالي: بذر الشك في نفوس الناس من الحكم العباسي البائد. فمن ذلك أن أبا محمد عليه السلام كان كثيراً ما يكلم غلمانه بلغاتهم وفيهم ترك وروم وصقالبة ، قال الراوي: فتعجبت من ذلك .وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن عليه السلام ، ولا رآه أحد ، فكيف هذا ؟ وبينما يحدث نفسه بذلك إذ أقبل الإمام (ع) عليه وقال له :إن الله عز وجل ابان حجته من سائر خلقه وأعطاه معرفة كل شيء. فهو يعرف اللغات والأنساب والحوادث .ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق.(1) فقد دلت هذه الرواية على امور رئيسية ثلاثة: الأمر الأول: أن الإمام عليه السلام كان يمتلك غلماناً كثيرين . ولعلك تتوسع في الظن إلى الإعتقاد بأنه كان يملك إلى جانب ذلك ما يوازيه ويقضيه من الدار الواسعة والأموال والعلاقات . ــــــــــــــــــــ (1) الإرشاد ص322 وما بعدها.
صفحة (189)
|
|