|
||
|
وكان شديد النصب والإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام .ومع ذلك نسمعه يقول: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا ، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم لإياه على ذوي السن منهم والخطر .وكذلك كانت حاله على القواد والوزراء زعامة الناس . ونحن إذ نسمع هذا المدح وألاكبار من أحمد بن عبيد الله ، نعرف أثر هذا المجلس الذي سيرويه بنفسه ، وتغير عقيدته من النصب إلى الحب ، ولكنه على أي حال لم يؤمن بالإمامة. وإذ يفكر الإمام العسكري عليه السلام أن يزور عبيد الله بن خاقان ابان وزارته ، فإنه يتوخى عدة مصالح ومبررات كلها أو بعضها: أحدهما: أن هذه الزيارة امتداد لتلك السياسة القديمة التي سار فيها المتوكل تجاه أبيه ، من التقريب إلى البلاط، والدمج بالحاشية .ولم يكن الإمام بسلبيته ، مريداً الخروج على هذه السياسة أو الإحتجاج ضدها. ثانيهما: إن الإمام كان يستهدف من وراء هذه الزيارة بعض مصالح أصحابه، أما تأليفاً لقلب هذا الوزير تجاههم ، أو أنه كان قاصداً إليه بحاجة مهمة معينة ، لم يذكرها له ، إنقطاع مجلسه معه بدخول أبي أحمد الموفق زائراً للوزير على ما سنذكر .
صفحة (180)
ثالثهما: أن هذا الوزير كان يحترم الإمام ويعتقد بقدسيته وعظمته وجدارته ، كما يدل عليه كلامه الذي سنسمعه عنه ، وكان الامام عليه السلام يعلم منه ذلك .فذهب لزيارته تأييداً لهذه الجهة في نفسه وإذكاءً لهذا النور في قلبه، كأنه يريد أن يفهم الدولة بشكل عملي أنه عليه السلام إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم وانحراف الصادر من رجال الحكم ، فإنه عليه السلام يعطي التأييد لكل حق ، أينما وجد الحق وليس له عداوة شخصية مع أحد ، فإنه قضية أمة ودين ، وهي أعلى وأوسع من الأشخاص والأرقام. وقد اختار الإمام عليه السلام أن تكون زيارته في مجلسه العام لكي يحقق ذلك الهدف ، ولئلا تكون زيارة خاصة قد تثير الشكوك . وكان مجلس الوزير محتشماً مهيباً باحتشام الوزير وهيبته فكان لا يكنى أحد بحضرته ولا يمشي مستقبلاً أو مودعاً أحداً ولا يجوز الدخول إليه إلا بعد إذنه الخاص. وفي أثناء جلوسه في مجلسه ، وولده أحمد يقف خلفه إذ يدخل حجابه قائلين: أبو محمد بن الرضا بالباب. فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير ويقول بصوت عال محاولاً إسماع الزائر الكريم :أئذنوا له. قال ولده أحمد: فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا بحضرة أبي ، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى. يقول : فدخل رجل حسن القامة جميل الوجه جيد البدن ، حديث السن ، له جلالة وهيئة حسنة. أقول: كان عمره في أول وزارة عبيد الله بن خاقان أربعاً وعشرين سنة .وإنما استجلب عمره انتباه أحمد ، باعتبار كثرة ما رأى له من تبجيل واحترام ، مما لا يكون غالباً للفتى في مثل عمره عليه السلام ، بحسب فهم هذا الرجل وتصوره.
صفحة (181)
قال أحمد: فلما نظر إليه أبي ، قام فمشى إليه خطأ .ولا أعلمه فعل أحد بأحد من بني هاشم والقواد .فلما دنى منه عانقه وقبل وجهه وصدره ،وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذ يكان عليه وجلس على جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه. أقول: ولا يخفى أثر هذا الإحترام على مجموع الحاضرين ، في مثل هذا المجلس المحتشم. وبخاصة في نفس أحمد بن عبيد الله ، الذي كان متعجباً مما يرى من أبيه. وبعد برهة قصيرة إذ دخل الحاجب معلناً عن مجيء الموفق "طلحة بن المتوكل" الذي يكلفه المعتمد يومئذ بقتال صاحب الزنج. وكان الموفق إذا دخل على هذا الوزير تقدمه حجابه وخاصة قواده ، فوقفوا يمين مجلس الوزير والدار على شكل صفين من حين دخول الموفق إلى حين خروجه. وكان الوزير لا يزال مقبلاً على ابي محمد عليه السلام يحدثه حين سمع بمجيء الموفق . وهو يعلم كل العلم بما في عثور الموفق على الإمام في هذا المجلس من الخطر عليه وعلى الإمام معاً .فأراد أن يعرفه بكل أدب واحترام قبل دخول الموفق .فقال له "إذا شئت ، جعلني الله فداك يكنى بذلك عن طلب القيام منه ثن عانقه وأمر حجابه بالأخذ بيد الإمام وراء أحد الصفين ، ليكون في إمكانهم أن يخرجوه خلسة .
وهذا يدل بكل وضوح ، على الذي عرفناه في تاريخ الإمام الهادي عليه السلام ،من أن عظمة الإمام وعدالة قضيته قد تمشت في قلوب الناس وأفكارهم ، نتيجة لجهود الإمام المتظافرة ، فلم تدع حتى المنتفعين من الدولة والمنخرطين في سلكها ، فضلاً عن جمهور العامة وسائر الناس. قال أحمد: فلم تكن لي همة بعد ذلم إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره ،فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء ،وسائر الناس ، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على اهل بيته ومشايخه. فعظم قدره عندي . إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه .
صفحة (183) |
|