وقد يكون موقف المتوكل تجاه الإمام موقف التحدي صرفاً ، لا لأجل الحاجة إلى تطبيق الفتوى، ولا لأجل الحاجة إلى فهم الحق في المسألة ، ولا لأجل إثبات جدارة الإمام عليه السلام توخياً للإيمان به ، بل لمجرد التحدي.فمن ذلك أن المتوكل يقول لابن السكيت: أسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي! فيسأله ابن السكيت عن بعض ما يراه صعباً ومشكلاً ، فيخرج الإمام (ع) ظافراً من هذا التحدي ، ويجيب بما هو الحق الصريح. وإذ ينتهي الكلام مع ابن السكيت يبتدر يحيى بن أكثم ، فيقول : ما لابن السكيت ، ومناظرته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة،ورفع قرطاساً فيه مسائل ، فأملى علي بن محمد عليه السلام ، على ابن السكيت جوابها (1) .

انظر إلى تعليق ابن أكثم حين قرأ جواب الإمام ، تجده قد تخوف من عمق أجوبته ودقة علمه ، من أن يشارك في الدعاية له وتأكيد صدق قضيته ، وبالنهاية توسيع وتقوية قواعده الشعبية ، قال يحيى بن أكثم للمتوكل : ما تحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه. وأنه لا يرد علي بشيء بعدها إلا دونها. وفي ظهور علمه تقوية للرافضة (2) .

فهذه عدة نقاط من الموقف الأول للإمام في العاصمة العباسية .

ـــــــــــــــــــ

(1)    المناقب جـ 3 ص 507 .    (2)    المصدر ص 509 .


صفحة (135)

 

الموقف الثاني :

موقفه مع أصحابه ومواليه .

وهو ما يرجع إلى المحافظة عليهم وحمايتهم من الإنحراف ومن الإرهاب العباسي . ومساعدتهم على قضاء حوائجهم بحسب الإمكان . ويندرج في هذا الموقف عدة نقاط :

النقطة الأولى :

حماية أصحابه وذويه من الإنحراف ، وبيع الضمير للحكام بأرخص الأثمان .

ولعل أهم وأوضح موقف وقفه الإمام (ع) في هذا الصدد ، موقفه في ردع أخيه موسى بن محمد بن علي بن موسى على آبائه الصلاة والسلام ، عن الإجتماع مع المتوكل في المجلس الذي كان يريده المتوكل له ، وهو مجلس اللهو والشراب، ليتوصل بذلك إلى هتك أخيه الإمام الهادي عليه السلام ، والتشهير به . ولكن الله تعالى أتم نوره ، ولم يتوصل المتوكل إلى مقصوده  فإن المتوكل ، تحت سورة من الحقد والغضب ، قال لأصحابه في بعض مجالسه : ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا(1) وجهدت أن يشرب معي وأن ينادمني ، فامتنع ، وجهدت أن أجد فرصة في هذا المعنى فلم أجدها . فقال له بعض من حضر المجلس : إن لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذا الحال ، فهذا أخوه موسى قصاف عزاف ، يأكل ويشرب ويعشق ويتخالع ، فأحضره واشهد به . فإن الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك . فلا يفرق الناس بينه وبين أخيه . ومن عرفه اتهم أخاه بمثل فعاله .

ـــــــــــــــــــ

(1)    يعنى الإمام الهادي عليه السلام .

 

صفحة (136)

 

وجاء هذا الاقتراح مناسباً مع اتجاه المتوكل وبلسماً على جرح قلبه . فأمر باستقدامه إلى سامراء مكرماً ، وأمر له باستقبال فخم يحضر فيه جميع بني هاشم والقواد وجماهير الناس. وكان عازماً على أنه إذا قدم اقطعه أرضاً وبنى له فيها ، وحول إليها الخمارين والقيان ـ أي الجواري والمغنيات ـ وأمر بصلته وبره . وزاد على ذلك ـ لأجل تحقيق غرضه ـ أن أفراد له منزلاً سرياً يصلح أن يزوره فيه .

وإلى هنا ، حاول المتوكل ، بسلطته على شؤون الدولة ، أن تكون مؤامرته على هتك الإمام بواسطة التشهير بأخيه ، تامة. إلا أن ذلك مما لا يمكن أن يفوت الإمام خبره ، ولا يمكن أن يتغاضى عنه . لأنه هو المقصود بالذات ، في هذا التخطيط ، والعمل ضده عمل ضد الدين وضد سيد المرسلين ، باعتبار أنه يعتقد أنه الممثل الاساسي الأكمل لهذا المبدأ المقدس ، فوقف الإمام (ع) ضد هذه المؤامرة موقفه الحاسم .

خرج عليه السلام مع المستقبلين ، فتلقى أخاه في قنطرة وصيف ، وهو موضع يتلقى فيه القادمون . فسلم عليه ووفاه حقه . ثم جاء دور تحذيره من المؤامرة وتنبيهه على ما ينبغي أن يتصرف . بالنحو الذي يقتضيه رضاء الله تعالى وتعاليم الإسلام .


صفحة (137)