النقطة الثالثة ـ جهاده العلمي :

ذلك الجهاد الذي كان يقوم به عليه السلام ، لكي يثبت حقاً أو يدفع باطلاً ، أو يجيب عن استفتاءات الخليفة له، أو يدفع تحديه عنه.

أما ما كان من إثبات الحق محضاً ، من دون أن يكون مسبوقاً بتحدٍ أو ازعاج . فمنه ما أجاب به عليه السلام عن سؤال الأهوازيين حين سألوه عن الجبر والتفويض . وهو بيان مطول بدأه بمقدمة حول إثبات الإمامة طبقاً للمفهوم الحق الذي يعتقده ، وأتبعه بالجواب الصحيح عن الأمر بين الأمرين (1).

ومنه ما أجاب به أحمد بن إسحاق حين سأله عن الرؤية وما فيه الخلق (2).

وأما ما كان من دفعة للباطل ، بعد اشتباه المسألة والتردد فيما هو الحق عند البعض ، فمنه ما تكلم به عليه السلام مع فتح بن يزيد الجرجاني ، لإزالة بعض الشبهات الواردة في ذهنه (3) ،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)    انظره في الاحتجاج جـ 2 ص 251 وما بعدها .

(2)    انظره في المصدر والصفحة .   (3)    انظره في المصدر ص 260 .


صفحة (132)

 

وما ورد به على رجل عباسي حين عز عليه تقدم الإمام عليه ، مع اعتقاده أنه أشرف منه نسباً !! (1) .

وأما المتوكل واستفتاءاته وتحدياته للإمام عليه السلام ، فهو كثير ، فإن المتوكل في الوقت الذي يعوزه الفقه في عدد من الوقائع ، يضطر إلى الرجوع إلى الإمام لتذليل ما يواجهه من عقبات . ولكنه كان يمزج استفتاءاته بالتحدي ، فيسأل عن الحكمة أو الدليل بقصد الإحراج لا بقصد الفهم الصحيح ، على ما سنعرف . وكان الإمام (ع) يجيبه بالشكل الذي يراه مناسباً مع فهمه وفهم الحاضرين ، وموافقاً للمصلحة مع كونه مثبتاً للحق في نفس الوقت .

فمن ذلك أنه قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم . فقال يحيى بن أكثم ـ وهو قاضي القضاة يومئذ ـ قد هدم إيمانه شركه وفعله. وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود . وقال بعضهم يفعل به كذا وكذا .

فلما رأى المتوكل هذا الاختلاف بين الفقهاء. أمر بالكتابة إلى أبي الحسن العسكري الإمام الهادي عليه السلام، لسؤاله عن ذلك . فلما قرأ الكتاب كتب عليه السلام : يضرب حتى يموت .

 ــــــــــــــــــــــ

(1)    انظر الاحتجاج جـ 2 ص 260 .


صفحة (133)

 

فانكر يحيى وانكر فقهاء العسكر: سامراء ـ ذلك . فقالوا : يا أمير المؤمنين ، سله عن ذلك فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجيء به سنة .

فكتب إليه : أن الفقهاء قد أنكروا هذا . وقالوا : لم يجيء به سنة ولم ينطق به كتاب . فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت .

فكتب عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما كنا به مشركين . فلن يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (1) . فأمر به المتوكل ، فضرب حتى مات (2) .

ونستطيع أن نفهم من ذلك ، بوضوح ، أمرين :

الأول : أن المتوكل بالرغم من افتقاره إلى الرجوع إلى فتوى الإمام عليه السلام لحل مضلته ، لم يكن على استعداد لتنفيذ ما أمره الإمام إلا بعد مراجعته والتأكيد عليه في طلب الدليل .

الثاني : أننا نفهم من سياق الآية التي استشهد به الإمام ، طريقة فهمه عليه السلام للموقف ، وهو : أن الإسلام الذي أظهره هذا النصراني ليس إيماناً صحيحاً ، وإنما هو لقلقة لسان أظهرها للتهرب من إقام الحد والنجاة من العقاب . وكل من أظهر الإيمان خوفاً من العدل الالهي ، لا يكون الإيمان نافعاً له ، ويكون مستحقاً لمثل هذا العقاب الذي أمر به عليه السلام .

ــــــــــــــــــــــ

(1)    المؤمن 84 ـ 85 .  (2)    المناقب جـ 3 ص509.

 

صفحة (134)