قال الراوي : فتحير الحاضرون ، ونهض علي بن محمد (ع) فقال له المتوكل : سألتك بالله إلا جلست ورددته. فقال : والله لا يرى بعدها اتسطل أعداء الله على أوليائه ، وخرج من عنده . ولم ير الرجل بعدها (1) .

النقطة الثانية ـ إثبات الحجة على المستوى الشعبي العام :

وذلك : بالنحو الذي لا ينافي السلبية والحذر ، من السلطة القائمة : وذلك : على أحمد مستويين ـ أحدهما : المستوى الشخصي والآخر : المستوى الجماعي .

المستوى الأول : إثبات الحق وإقامة الحجة تجاه أشخاص باعيانهم . مثل موقف الإمام تجاه ذلك النصراني الذي جاء دار الإمام حاملاً إليه بعض الأموال . وبمجرد أن وصل أمام الدار خرج إليه خادم أسود . فقال له : أنت يوسف بن يعقوب. قال: نعم. قال : فانزل . واقعده في الدهليز ، فتعجب النصراني من معرفته لاسمه واسم أبيه، وليس في البلد من يعرفه ، ولا دخله قط ، ثم خرج الخادم فقال : المئة دينار التي في كمك في الكاغذ ، هاتها . فناولها إياه . وجاء فقال: ادخل ، فدخل ، وكان الإمام وحده . فطالبه الإمام (ع) بالإسلام والرجوع إلى الحق نتيجة للآيات التي رآها بقوله يا يوسف . ما آن لك ؟ فقال يوسف : يا مولاي ، قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى.

ـــــــــــــــــــ

(1)    كشف الغمة جـ 3 ص 184 .


صفحة (129)

 

فقال: هيهات أنك لا تسلم . ولكنه سيسم ولدك فلان ، وهو من شيعتنا. يا يوسف إن أقواماً يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك . كذبوا والله ، أنه لتنفع . امض فيما وافيت له ، فإنك سترى ما تحب . قال الراوي : فمضيت إلى باب المتوكل فنلت كل ما أردت وانصرفت (1) .

وعلى هذا المستوى موقف الإمام (ع) تجاه سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاح ، الذي كان واقفياً ، فقال له الإمام(ع)، إلى كم هذه النومة أمالك أن تنتبه منها . قال : فقدح في قلبي شيئاً وغشي علي وتبعت الحق(2).

انظر إلى هذه الرمزية التي استعملها الإمام (ع) في كلامه ، بحيث لم يكن يصلح لفهمه إلى المخاطب ، وبذلك أدخله في مواليه وقواعده الشعبية، بعد أن كان حائداً عنه. إلى غير ذلك من الأمثلة التي نكتفي منها بما نقلناه.

المستوى الثاني: إثبات الحق أمام جماعة أوجماعات، عند سنوح الفرصة وتنجز المسؤولية : بشكل هادئ ليس فيه تحد للوضع القائم ، أو مقابلة الخط الحكام .

ـــــــــــــــــــ

(1)    كشف الغمة جـ 3 ص 183 .

(2)    المناقب جـ 3 ص 511 .


صفحة (130)
 

فمن ذلك : أنه كان لبعض أولاد الخلفاء وليمة دعا إليها الإمام الهادي عليه السلام . فلما رأوه انصتوا إجلالاً له . وجعل شاب في المجلس لا يوقره ، وجعل يلفظ ويضحك ، يدعوه إلى ذلك تجاهل وجود الإمام والتهوين من شأنه أمام جماعة المدعوين . فقال الإمام له : ما هذا الضحك ملء فيك ، وتذهل عن ذكر الله ، وأنت بعد ثلاثة ايام من أهل القبور. فكف عما هو عليه . وكان كما قال (1) حيث مات الشاب في الموعد المحدد . ولم يكن على أحد من المدعوين ، ألا أن يعرف موعد مدته ، ليعرف حق قول الإمام عليه السلام .

ومن ذلك : أن السلطات خرج في يوم من أيام الربيع ، إلا أنه صائف ، والناس عليهم ثياب الصيف ، أما الإمام (ع) فعليه لباد وعلى فرسه ثوب يحميه المطر ، وقد عقب ذنب فرسه. والناس يتعجبون منه ويقولون : ألا ترون إلى هذا المدني ، وما قد فعل بنفسه . قال الراوي : فلما خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا أن ارتفعت سحابة عظيمة، هطلت. فلم يبق أحد إلا ابتل حتى غرق بالمطر. وعاد عليه السلام ، وهو سالم في جميعه (2) . وهنا كان يكفي كل واحد من هؤلاء ، قليلاً من الإلتفات ليروا كرامة الإمام عليه السلام .

وهنا نلاحظ أن مشاركة الإمام (ع) لموكب السلطان في الخروج إلى الصيد ـ وهو لهو كان مفضلاً عند الخلفاء والوزراء في تلك العصور ـ ناتجة في الحقيقة عما عرفناه من سياسة الخلافة العباسية في حجز الإمام (ع) في بوتقة البلاط، وعزله عن قواعده الشعبية ونشاطه البناء ، لكي يكون دائماً تحت الرقابة والنظر.

ــــــــــــــــ 

(1)    المناقب جـ 3 ص 517 .

(2)    المصدر السابق ص 516 .


صفحة (131)