ويمر الركب ببغداد – في طريقه إلى سامراء – فيقابل ابن هرثمة واليها – بعد انتقال الخلافة عنها – وهو يومئذ اسحاق بن ابراهيم الطاهري . وهو ، بمقتضى منصبه ، محل الثقة الكبرى من قبل المتوكل ، بحيث جعله والياً على عاصمته الثانية وقائماً مقامه فيها . فنرى اسحاقاً الطاهري يوصى بن هرثمة بالامام مستوثقاً من حياته قائلاً له : يا يحيى ان هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمتوكل من تعلم وان حرضته على قتله ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك .

فيجيبه يحيى : والله ما وقفت له الا على كل امر جميل (1) .

ونحن حين نسمع هذا الحوار بين الرجلين اللذين يمثلان السلطات نفسها ويعيشان على موائدها ، نعرف كم وصل الحقد والتمرد على النظام القائم يؤمئذ ، وكيف أنه تجاوز القواعد الشعبية إلى الطبقة العليا الخاصة من الحكام ، مواضع ثقة الخليفة ومنفذي اوامره. كما نعرف مدى اتساع الذكر الحسن والصدى الجميل لافعال الامام وأقواله بين جميع الطبقات ، حتى بين الحكام انفسهم .

وحين يصل الركب إلى سامراء ، يبدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ، وقد عرفناه قائداً من القواد الاتراك المنتفعين بالوضع القائم ، ممن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في اعماله ويظهر من التاريخ ان وصيفاً كان هو الآمر رسمياً على ابن هرثمة ، ومن هنا قال له وصيف : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة ، لا يكون المطالب بها غيري .

______________________

(1) مروج الذهب جـ 4 ص 85 .


صفحة(110)

 

يقول ابن هرثمة : فعجبت من قولهما ، وعرفت المتوكل ما وقفت عليه وما سمعته من الثناء عليه ، فاحسن جائزته واظهر برّه وتكرمته (1) . وقد عرفنا مما سبق ان كل هذا الكرم الحاتمي ، على الامام عليه السلام ، لم يكن من أجل حفظ حق الامام ، وانما كان تغطية للمنهج السياسي الذي يريد المتوكل اتباعه ، وهو عزل الامام عن نشاطه وقواعده الشعبية والحذر مما قد يصدر منه من قول أو فعل .

ومن هنا نرى ، ان المتوكل أمر ان يحجب عنه الامام (2) في يوم وروده الأول إلى العاصمة العباسية. ونزل الامام في مكان متواضع يدعى بخان الصعاليك ، فقام فيه يومه (3) .

ومر عليه ، وهو في هذا الخان احد محبيه مقدري فضله ، صالح بن سعيد ، فاحزنه حال الامام عليه السلام ، فقال له : جعلت فداك في كل الامور ارادوا اطفاء نورك والتقصير بك حتى انزلوك في هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك .

ويسمع الامام (ع) ما قال ، فيجيب وكأنه قد التفت بعد استغراق تفكير ونشغال بال : ههنا انت يا ابن سعيد .

ثم يريد الامام (ع) ان يفهم هذا المشفق بان الحال الدينوية ، وان إلا أن حدوث مثل ذلك ، في ذلك الظرف العصيب ، لم يكن ليصل إلينا أكثر مما وصل منه فعلاً .

________________________

(1) المصدر والصفحة .

(2) الارشاد ص 314 .

(3) اعلام الورى ص 348 وانظر الارشاد أيضاً نفس الصفحة السابقة .


صفحة (111)
 

مضافاً ، إلى أن جملة من الأحداث ، كان في مستطاع أصحاب الإمام عليه السلام وأعدائه ، كما في مستطاع المؤرخ اليوم، استنتاج رأيه فيها، بصفته الوجود الممتد لرسول الله (ص) والممثل للقواعد الإسلامية الصحيحة. فنحن لا نحتاج إلا مزيد تفكير حين نريد معرفة رأيه باشخاص الخلفاء أو سلوكهم المنحرف أو الوزراء أو القواد ، ونشاطهم غير القائم على أساس العدل الإسلامي ، أو رأيه في الخوارج أو في هدم قبر جده الحسين عليه السلام ومنع الزوار عنه. فإن كل ذلك مما يرفضه رفضاً باتاً ويستنكره أشد الاستنكار . وكذلك الحروب والمناوشات التي كانت تقع في داخل البلاد الإسلامية ، قائمة على الطمع والتوسع . وكذلك تنصيب القضاة غير الاكفاء بنظر الإمام (ع) وجميع ما يصدرون من أحكام .

أما بالنسبة إلى حروب المسلمين مع الاغيار في الحدود الإسلامية ، فمن المستطاع القول بموافقته عليها ، باعتبارها القضية التي تخص الإسلام ، الذي يمثل الإمام حقيقته وجوهره . ولو كان الجهاد في ذلك الزمان في سبيل الله محضاً ـ كما كان على عهد رسول الله (ص) ـ لكان الإمام أول المبادرين إلى تأييده ، ولكننا أسلفنا في التاريخ العام أن فكرة الجهاد انحدرت في الأزمان المتأخرة إلى التجارة والمساومة .


صفحة(121)

 

فلم تكن هذه الناحية ، من الجهاد ، بمرضية للإمام عليه السلام ، وبخاصة وأن الاموال المغتنمة ، لم تكن تصرف في مصلحة الدين والأمة ، وإنما كانت : في الأغلب ، تصرف في الشؤون الخاصة للحكام .

وإنما الذي كون مرضياً للإمام عليه السلام ، هو نتيجة الجهاد وهو سقوط المنطقة الكافرة بين المسلمين ، ودخولها في بلاد الإسلام وخلاصها من حكم الكفر أو الإلحاد .


صفحة (122)