|
||
|
لعل أهم دلائل الاخفاء ، هو تصديه إلى تكذيب الخبر برسالة يرسلها إلى المتوكل نفسه ، يكذب فيها التهمة ، وينفي عن نفسه صفة التأمر على الدولة . فان نشاطه كان مقتصراً في الدفاع عن قواعده الشعبية وتدبير أمورهم ، وليس له ضد الدولة أي عمل ، وان كان قد أوجب عمله توهم عبد الله بن محمد لذلك . والمتوكل هو من عرفناه بموقفه المتزمت ضد الامام عليه السلام وكل من يمت اليه بنسب أو عقيدة . ولكنه يتلقى رسالة الامام (ع) بصدر رحب ، ويرسل له رسالة مفصلة كلها اجلال له واعظام لمحله ومنزلته. يعترف بها ببرائته وصدق نيته ويوعز بعزل عبد الله بن محمد عن منصبه بالمدينة ، ويدعى الاشتياق اليه ويدعوه ان يشخص إلى سامراء مع من اختار من أهل بيته ومواليه (1) . وهذا الطلب، وان صاغه المتوكل بصيغة الرجاء ، الا انه هو الالزام بعينه ، فان الامام عليه السلام ان لم يذهب حيث امره يكون قد اثبت تلك التهمة على نفسه واعلن العصيان على الخلافة ، وكلاهما مما لا تقتضيه سياسة الامام (ع) . واما عام سفره هذا ، فقد ذكر في الارشاد (2) : ان الرسالة مؤرخة بجمادى الآخرة سنة ثلاث واربعين ومأتين وليس في هذا ما يلفت النظر لولا ما ذكره ابن شهر اشوب من ان مدة مقام الامام الهادي عليه السلام في سامراء من حين دخوله إلى وفاته ، عشرون سنة (3) . _______________________________ (1) انظر نص الرسالة في الارشاد . الصفحة السابقة وما بعدها . (2) انظر ص 314 . (3) المناقب جـ 3 ص 505 .
اعطى المتوكل رسالته إلى احد صنائعه ، يحيى بن هرثمة ، ليسلمها إلى الامام في المدينة ، وامره باستقدامه إلى سامراء . فأسمعه يقول في روايته للحادثة(2) : فلما صرت اليها – يعني المدينة المنورة – ضج أهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله . فجعلت اسكنهم واحلف لهم اني لم أؤمر فيه بمكروه ، وفتشت بيته ، فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاء وما أشبه ذلك . فنعرف من ذلك، مدى اخلاص اهل المدينة لامامهم عليه السلام ، وحرصهم عليه ، ومدى تأثيره الحسن فيهم، ولم يكن هذا الضجيج الكبير منهم ، إلا لمعرفتهم بوضوح سوء نية السلطات تجاه الامام وابتغائها الدوائر ضده. _________________________ (1) انظر الارشاد ص 307 وابن الوردي جـ 1 ص 232 وابن خلكان ص 435 جـ 2 والطبري جـ 11 ص 157 والعبر جـ 2 ص 5 وابو الفداء جـ ص 254 (2) انظر المروج جـ 4 ص 84 وما بعدها
فكان تأسفهم وتأوههم ناشئاً من امرين : احدهما: انقطاعهم عن الامام عليه السلام ، وحرمانهم من ارشاداته والطافه ونشاطه الاسلامي البناء . وهذا ما اراده المتوكل ، وقد حصل بالفعل بمقر الامام ، فانه لم يعد إلى المدينة بعد ذلك . الثاني: مخافتهم على حياته ، لاحتمال قتله عند وصوله إلى العاصمة العباسية. وهذا هو الذي فهمه يحيى بن هرثمة من الضجيج – وحاول ان لا يفهم غيره – فحلف لهم انه لم يؤمر فيه بمكروه. ولم يثن الضجيج هذا الرجل عن غرضه السياسي في التجسس ففتش دار الامام ، بالمقدار الذي حلا له ، فلم يجد فيه أي وثيقة تدل على التمرد أو الخروج على النظام العباسي . وبذلك يكون المتوكل قد فقد أي مستمسك يؤيد ما سمعه عنه أو خافه منه . واستطاع الامام عليه السلام ان يحافظ على مسلكه العام في السلبية . وخرج الامام الهادي عليه السلام ، مصاحباً لولده الامام العسكري وهو وصي ، مع ابن هرثمة متوجهاً إلى سامراء . وحاول ابن هرثمة في الطريق اكرام الامام واحسان عشرته . وكان يرى منه الكرامات والحجج التي تدل على توليه طرق الحق ، وتوضح لهذا الرجل جريمته في ازعاج الامام وزعزعته والتجسس عليه ، وجريمة من امره بذلك أيضاً .
|
|