ومن هنا نجد ـ مثلاً ـ أنه في عهد الخليفة المنتصر ، الذي كان يميل إلى أهل البيت ، خلافاً لأبيه وسلفه المتوكل ، لم تحصل ثورة ولم يجز منه على أحد من العلويين قتل أو حبس أو مكروه (1) . ولكنه بقي في الخلافة ستة اشهر فقط !!

الأمر الثاني : إن الخلافة على ضعفها وعجزها في هذا العهد ، وتفاقم هذا العجز كلما طال الزمان عليها في سامراء. إلا أن هذا لم يكن بمانع لها عن قمع الثورات العلوية مهما بعدت عن المركز ، ومهما قويت ، وذلك: لأن الخليفة بنفسه، وإن كان عاجزاً عن تدبير الأمور العامة ، منصرفاً إلى لهوه وقصفه ، إلا أن مناوأة الفكرة العلوية ، ليست خاصة به ، وإنما هي عامة على كثير من القواد ـ وبخاصة الأتراك والموالى والعباسيين ـ ومن الوزراء وحكام الأطراف ، حتى المستقلين منهم ، كأحمد بن طولون في مصر والسامانية فيما وراء النهر وآل الإغلب في شمال أفريقيا ، والتاريخ العام والخاص مليء بالشواهد على ذلك .

الأمر الثالث : إن بعض هؤلاء الثوار كانوا ضيحة تخلف الوعي وسيطرة المصلحة على أتباعهم وأفراد جيشهم. فإن درجة الوعي عند الأمة كان منخفضاً جداً ، بمعنى أن ما كان يعيش في أذهانهم دائماً هو الشعور بالظلم تردي الحال اجتماعياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً ، وهو ما يدركه كل شخص من زاوية مصلحته وحياته الخاصة . دون شعور واضح واحساس عميق ، بالمسؤولية الكبرى الملقاة عليه كفرد من الأمة ، في الدعوة إلى تطبيق ما هو البديل العادل لهذا الظلم والطغيان .

 ـــــــــــــــــــــ

(1)    المقاتل ص 450 .


صفحة (89)

 

ومن هنا كان هؤلاء الثوار يجمعون من الأتباع العدد الكبير نتيجة طبيعية لشعور الناس بالظلم وأملهم في الثائر الجديد . إلا أن هذا العدد الكبير كان ينقسم دائماً إلى قسمين :

أحدهما :وهم الخاصة الأقلون، الواعون لأهدافهم الإسلامية ، الهادفون إلى خدمة امتهم وأداء رسالتهم والباذلون مهجهم في سبيل عقيدتهم وربهم .

 ثانيهما: وهم الأكثر عدداً ، الذين مثلوا المجتمع الذي عاشوه بدرجة وعيه واحساسه فهم يحسون بالظلم من زاوية  شخصية مصلحية ، وحين ظنوا بالثائر خيراً لمصالهم اتبعوه ذبوا عنه ، ولكنهم حين أحسوا بالموت أو النوم في سجون السلطات ، وأيسوا من صاحبهم الثائر ، ولوا منهزمين وتفرقوا عنه وخذلوه كما سمعنا في عدد من الثوار العلويين .

الثامن : من خصائص هذا العصر ، وإن لم يكن من مختصاته ، قيام الميزان الأساسي والمعيار الغالب ، في تقييم الخلفاء والوزراء والقواد والقضاة وغيرهم ، ممن بيده السياسة العليا للدولة ، وتحديد علاقات الصداقة والحرب ، كلها بميزان مادي مالي خالص. لا يختلف في ذلك من يعيش في العاصمة وما حواليها ممن هو بعيد في الأطراف ، إلا من شذ وندر.

صفحة (90)

 

ويتضح بجلاء ، من استعراض التاريخ ، قيام المجتمع ، بعد انحرافه عن الإسلام وتناسيه لمسؤوليته الكبرى ، قيامه على أساس الطبقية الملموسة ، فالأموال تتركز بيد الأقوياء والمتنفذين في السلطة ، ويحضى الأتراك والقواد الموالى بقسط كبير منها ، على حين يعيش سائر الناس بالمستوى المتوسط فما دونه ، إلى حال الفقر المدقع ، من دون ضمان عيش أو أمل حياة.

وإذا أردنا أن نستعرض تفاصيل ذلك لطال بنا المقام ، وخرجنا عن الغرض ، لكن يكفي أن تعرف طرفا من ذلك:

فالواثق عام 229هـ حبس كتاب دولته ، والزمهم أموالاً عظيمة . أخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار، ومن سليمان بن وهب ـ كاتب أيتاخ ـ أربعمائة ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار . ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار . ومن أحمد بن الخطيب مليوناً من الدنانير ، ومن نجاح ستين ألف دينار ، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار (1) .

 فمن الطبيعي للإنسان أن يتصور أن هؤلاء الكتاب ، كم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع تلك الضرائب . وإذا كان الكاتب العادي لدى الوزير حاصل على مثل هذه الثروات فكيف بالوزير نفسه ومن في منزلته من القواد والقضا والولاة. ولعل من نافلة القول وواضحه ، أن هذه الأموال إنما تحصل في أيدي هؤلاء ، على حساب الامة الإسلامية ، وفقر الفقراء ، والمصالح الكبرى التي تفوت بذلك .

 ــــــــــــــــــ

(1)    الكامل جـ 5 ص 269 .


صفحة (91)