وأما هذه التفاصيل التي يذكرها المهدي (ع) في البيعة ، فهو ما أعربت عنه الرواايت الأخرى التي سمعناها، والتي سنذكرها في الشكل الثاني .وبذلك يتحد محتوى الشكلين لمضمون البيعة، لأن الكتاب الجديد والأمر الجديد يعود إلى نفس التفاصيل المندرجة في الشكل الثاني .وليست شيئاً آخر .

الشكل الثاني:إن المهدي (ع) يبايع أصحابه على شروط معينة بتفاصيلها .تمثل في حقيقتها أهم أحكام الإسلام. وقد سردت إحدى الروايات السابقة ، قائمة طويلة منها لا حاجة إلى تكرارها الآن .

غير أن هذا الشكل من الشروط المطولة ، يحتوي على بعض الإستفهامات .لا بد من عرضها ونقدها :

الإستفهام الأول : كيف يتصور أن المهدي (ع) يتلو هذه الشروط على كل واحد من الحاضرين ، فإنه يستغرق زمناً طويلاً ؟...

وجوابه : واضح ، وهو أنه لا يحتاج إلى ذكرها أكثر من مرة ، أمام مجموع الحاضرين أو مجموعة منهم ، ثم يق,م بالتنبيه على تلك الشروط في كل مبايعة .

الإستفهام الثاني :إن ما ذكر في هذ القائمة الطويلة من الأحكام ، ليست أحكاماً جديدة ، بل هي احكام معروفة في الإسلام ، ونافذة قبل الظهور ، فكيف نقول أنها من الكتاب الجديد والأمر الجديد .

ويمكن الجواب على ذلك من عدة زواي، نذكر اثنتين منها :

الزاوية الأولى : أننا نحتمل ـ على الأقل ـ أن الرواية التي تكفلت بيان الشكل الثاني لمضمون البيعة قد حذفت من القائمة التي يذكرها المهدي (ع) لأصحابه ، كل حكم جديد..لأن ذكرها في الرواية يساوق إعلانها قبل الظهور :مثل قوله :ويرضون بالقليل ويشمون الطيب ، ويلبسون الخشن من الثياب ويتوسدون التراب على الخدود .

 

صفحة (254)

 

فإن هذه أحكام نافذة المفعول قبل الظهور،ولكنها مستحبة وغير (إلزامية) بمعنى أنه يجوز تركها للفرد ...ولكن بعد أن تعيش الأمة التجارب القاسية السابقة على الظهور ، التي تنتج فيها الإيمان العالي والإخلاص العميق في جماعة واسعة من الناس .... يصبح فيها القابلية لأن تكون (ملزمة) بهذه الأحكام وأمثالها . فتتحول هذه الأحكام من الإستحباب إلى وجوب .

ويكون هذا الوجوب ، ممثلاً لجهة مهمة من جهات (الكتاب الجدي والأمر الجديد) الذي سوف يعلن بعد الظهور .

ومن هنا نفهم الجواب على :

الإستفهام الثالث : إن هذه الأحكام (المستحبة) صعبة التنفيذ ، فكيف تكون واجبة بعد الظهور؟

وجوابه من وجهين :

الوجه الأول : أنه لا دليل على شمول هذه الأحكام للأمة كلها ،وإنما كل ما في الأمر ، أن الرواية دلتنا على أن المهدي (ع) يشترط على أصحابه ... ومن المعلوم أن هؤلاء الأصحاب المخلصين من الدرجة الأولى ، سيكونون على مستوى قابلية التنفيذ لا محالة.

الوجه الثاني: أنه لا بأس بشمول هذه الأحكام وأمثالها للأمة ككل ، بعد تكاملها نتيجة للتمحيص الطويل ، فإن التوقعات من الفرد تزداد كلما ازداد إخلاصاً وتكاملاً ،وكذلك الأمة ، بصفتها متكونة من الأفراد .

كل ما في الأمر ، أن إعلان أمثال هذه الأحكام سيكون تدريجياً ، بمقدار ما يستطيع الإخلاص العميق أن يرسخ أقدامه في الأمة. فهو يبدأ بأضيق صورة وهو الإشتراط خلال البيعة أمام جماعة محدودة من الناس، وينتهي بالإعلان العام عندما تقتضي المصلحة ذلك .

الإستفهام الرابع : قد يخطر في الذهن :بأننا عرفنا أن جبرائيل(ع) هو أول من يبايع، فهل تكون هذه الأحكام سارية المفعول عليه أيضا؟

إن مجرد إثارة هذا السؤال، غريب .... فإنه واضح النفي ، بعد أن عرفنا أن مبايعة جبرائيل (ع) ليس من أجل أن يصبح من شعب دولة المهدي (ع) بشكل مباشر...بل لأجل مصالح أخرى عرفنا طرفاً منها .وهذه الأحكام إنما تسري على شعب تلك الدولة من البشر بطبيعة الحال .

 

صفحة (255)
 

ومن هنا نسمع الروايات تقول :(لكأني انظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد ...) فهو يبايع الناس والملائكة ، غير أن الأمر الجديد ، سيكون ساري المفعول على البشر فقط .وفي الخبر الآخر : أنه يأخذ البيعة عن أصحابه ...وجبرائيل (ع) وإن كان من أصحاب المهدي(ع) ، غير أن لفظ الأصحاب واضح في اؤلئك الذين انتخبهم التمحيص ، كعدد كاف لغزو العالم بالعدل ، وكلهم من البشر بطبيعة الحال.

 النقطة الرابعة : ـ من الحديث عن البيعة ـ: انه ورد في بعض الروايات التي سمعناها عن البيعة :أن الإمام المهدي (ع ) يشترط على نفسه أموراً إلى جانب ما يشترطه على اصحاب الأمور .

والمفهوم الأساسي الذي تؤكد عليه هذه الأمور :إن الأمام المهدي(ع)  سيكون قائداً شعبياً يعيش حياة اعتيادية بعيدة عن الفخفخة والجبروت التي عاشها حكام العهد السابق على الظهور ، فهو(يمشي حين يمشون ، ويلبس كما يلبسون .ويركب كما يركبون ، ويرضى بالقليل ) .

وكذلك كان رسول الله خلال حكمه ،وكان أمير المؤمنين علي بن أبي  طالب (ع) الذي يقول :

فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادخرت من غنائمها وفراً ،ولااعددت لبالي ثوبي طمراً ..ولو شئت لأهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات ،أن يغلبني هواي ، ويقودني شجعي على تخير الأطعمة ،ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ... أأقنع من نفسي بأن يقال :أمير المؤمنين ،ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش ..."(1).

وكذلك ينبغي أن يكون المهدي (ع) ، بصفته الحاكم الأعلى للدولة العالمية العادلة ، فإن من القواعد العامة في الإسلام ، أن الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية يجب عليه أن يعيش في حياته الشخصية على مستوى افقر فرد في شعبه .وستأتي تطبيقات ذلك عند الحديث عن دولة المهدي ونظامها .

 

صفحة (256)

ـــــــــــــــــ  

(1) نهج البلاغة ، شرح : محمد عبده ج2 ص79-81.