فليفكر القارىء في السؤال الذي يرغب  بتوجيهه إلى المهدي (ع) عند ظهوره .

فهذين المستويين الفكريين ، يمكن له (ع) الإنطلاق منهما لإثبات صدقه في أول ظهوره .

وأما بعد ذلك فستكون المستويات أو الحقول الفكرية الجديدة أكثرمن أن تعد وأوضح من أن تذكر .

الوجه الرابع : أننا لو غضضنا النظر عن كل ما سبق وفرضنا حاجة المهدي (ع) إلى إقامة المعجزة بعد ظهوره مباشرة لإثبات صدقه وحقيقته ، وهو – لا محالة – قادر على ذلك طبقاً لكلا التصورين الإمامي والآخر عن المهدي(ع) . وستقع المعجزة – لو قام بها ـ مطابقة لقانون المعجزات ، أنها واقعة في طريق إقامة الحق والعدل والهدى وهي الطريق المنحصر إليه – بعد غض النظر عن الوجوه السابقة ـ ... لأنها الطريق الوحيد لمعرفته ولا يمكن إقامة الحق والهدى بدون معرفته .وكلما انحصرت إقامة الحق على المعجزة أوجدها الله تعالى في البشرية ـ طبقاً لقانون المعجزات ـ لا يفرق في ذلك بين نبي أو ولي .

فإذا تم ذلك ، كان لنا أن نقول :أننا لا نستطيع أن نقطع بعدم إقامة المهدي (ع) للمعجزة ... فإذا اقتضتها القواعد العامة في الإسلام كان ذلك إثباتاً كافياً لها ، وعدم النقل لا يدل على عدم الوجود .ويمكن أن يكون عدم النقل مستنداً إلى السبب الآتي .وهو أننا نستطيع أن نقسم المعجزة ـ في حدود ما نحتاجه الآن ـ إلى خاصة وعامة والعامة منها إلى معجزة (كلاسيكية) أو تقليدية ومعجزة (علمية) ! .. وما يمكن نقله إلينا قسم واحد فقط .كما ، سنوضح . في  حين أن المهدي (ع ) قد يقتصر على القسمين الآخرين ، فيكون ورود نقله في الأخبار متعذراً .

ونقصد بالمعجزات الخاصة ما يقع بين إمام وشخص واحد أو جماعة محدودة من خوارق ...كما لو أخبر الإمام شخصاً بما في ذهنه أو أجابه قبل  سؤاله ، أو عبرعن أي شء لا يمكن بحسب القوانين المعروفة للكون أن يكون عالماً به ،كما يعلم به الفرد المواجه للإمام وجداناً .

ونقصد بالمعجزات العامة : تلك الخوارق التي تكون معلنة أمام الناس .وهي تختلف عن المعجزات الخاصة بأمر رئيسي ، وهو أن المعجزات العامة لا بد أن تكون واضحة الإعجاز أمام الناس ، ومقنعة للذهن البشري الإعتيادي بحسب المستوى العام للجيل المعاصر للمعجزة ، وأما المعجزة الخاصة فحسبها أن تكون مناسبة لمستوى الفرد المواجه للإمام ومقنعة له .وقد لا تكون مقنعة للآخرين أو لا يعرف الغير أنها معجزة على الإطلاق .


صفحة (236)

 

ويمكن تقسيم المعجزة العامة إلى قسمين :

القسم الأول: ما سميناه بالمعجزات الكلاسيكية ، وهي التي تقوم على تغيير خارق واضح وسريع في نظام الكون . بحيث يراه ويفهمه عامة الناس .

وهذا القسم هو الذي يغلب على معاجز الأنبياء السابقين ،ومن هنا سميناه بـ( الكلاسيكي) والغرض منه إعطاء اكبر مقدار من الزخم العاطفي والعقلي في مجتمع لم يكن يفهم  التعمق والتحليل .كانقلاب العصا ثعباناً وافلاق البحر وإحياء الموتى وانقسام القمر إلى قسمين وغيرها.

القسم الثاني : ما سميناه بالمعجزات (العلمية) وهي التي تقوم فكرتها الإعجازية على التدقيق والتحليل ... قد لا يلتفت الفرد الإعتيادي إلى وجود شيء خارق لنظام الطبيعة فوراً ،وإنما ينبغي أن يلتفت الناس على ذلك بالتدريج .

وأوضح وأقدم شكل لهذا القسم هو (القرآن الكريم) أهم معجزات نبي الإسلام ومن هذا القسم يمكن أن تنطلق معجزات القائد المهدي (ع) ، كما سنمثل ويتلخص الفرق بين القسمين بعدة أمور :

أولاً : ما ذكرناه من فورية الإلتفات إلى الإعجاز في القسم ألأول دون الثاني ، فإنه يحتاج إلى مضي زمان لكي يفهم .

ثانياً :أن القسم الأول يناسب المستويات الإجتماعية غير المتقدمة والمعمقة من البشرية .

ثالثاً : إن القسم الأول يقصد به النتيجة الواضحة ،وإن اوجبت خرق عدة نقاط من النظام الكوني ، بخلاف القسم الثاني ،فإن المقصود منه نقطة واحدة فقط من النظام الكوني .أو عدة محددة تماماً ومعلنة بوضوح .فالقرآن الكريم تجاوز المستوى الفكري والبياني البشري عموماً .وفي الإمكان تقليل الجاذبية في منطقة وزمان معينين. كما لو أعلن أن جاذبية الأرض في مدينة (بغداد) ستصبح بمقدار نصف ما كانت عليه أسبوعاً محدداً من الزمن.


صفحة (237)
 

كما يمكن أن يعلن تحديد زمان لتقليل سرعة النور في منطقة ما أو في حدود معينة أو زيادة في سرعة دوران الأرض قليلاً . وهكذا.

إن امثال هذه المعاجز لن يحس الفرد العادي بحدوث التغير إلا بعد أن يشاهد تطبيقاته في الخارج...ولقد رأينا أن الفرد الإعتيادي لا يدرك لأول وهلة وجود الإعجاز في آية يسمهعا من آيات القرآن الكريم .

رابعاً: إن القسم الثاني من المعجزات قابل للدوام والإستمرار جيلاً او عدة أجيال من البشر أو إلى نهاية البشرية كما في القرآن الكريم نفسه . وقد يمكن الإستمرار في بعض تلك الأمثلة إلى أزمنة طويلة أيضاً .

أما القسم الأول فهو وقتي الحدوث .لا يمكن استمرار الأعجاز فيه .وهذا يمثل إحدى الفوارق بين معجزات الأنبياء السابقين على الإسلام التي كانت كلها وقتية الحدوث ... وبين معجزات نبي الإسلام التي استطاعت على الدوام والإستمرار ، متمثلة بالقرآن الكريم .

وإلى هنا عرفنا ثلاثة أقسام من المعجزات : المعجزات الخاصة ،والمعجزات العامة (الكلاسيكية) والمعجزات العامة (العلمية). وما يمكن أن نسمع نقله في الأخبار قسم واحد ـ كما قلنا ـ وهي المعجزات العامة الكلاسيكية ، دون المعجزات الخاصة والمعجزات العلمية .

وأما إمكان نقل هذا القسم ، فباعتبار كونه مفهوماً فهماً اجتماعياً عاماً ،وموافقاً مع مستوى الجيل الذي سمعت عنها .وأما عدم إمكان نقل المعجزات العلمية في الأخبار ، فواضح أيضاً ، باعتبار عدم انسجامها مع المستوى العقلي والفكري والثقافي للمجتمع الذي صدرت فيه هذه الأخبار لأول مرة .فكما يكون نشازاً في ذلك المجتمع  التنبؤ صراحة بحدوث الطائرة أو الصواريخ الموجهة ، كذلك يكون التنبؤ بحدوث معجزة على هذا المستوى العلمي الرفيع .

وقد يخطر في الذهن : أن بعض المعجزات العلمية كانت موجودة يومئذ ،متمثلة بالقرآن الكريم ،إذن فلم يكن هذا القسم أعلى من مستوى الفكر الإجتماعي .

وجوابه من عدة وجوه نذكر منها اثنان :

الوجه الأول : إن الأسس التي قام إعجاز القرآن الكريم على أساسها ، أو بتعبير أصح: إن (القانون) الذي خرقه القرآن بإعجازه ..كان مفهوماً للمجتمع يومئذ.

وهو المستوى الأدبي البلاغي للغة العربية .على حين لم تكن الأسس التي تقوم عليها المعجزات (العلمية) التي مثلنا لها ، مفهومة بالمرة .


صفحة (238)