4- ومن هنا نعرف أنه لن يتكلم بكلام لم يتكلم به أحد من الناس " فإن من يكون من حقه ذلك ، بحيث يكون كل ما يقوله صادقاُ عليه كل الصدق ومنطبقاً تمام الإنطباق ، هو ذلك الشخص المؤهل للقيادة العالمية والوارث لخط الأنبياء والذي هو أولى بهم وبكتاب الله وسنة رسوله ، من أي شخص آخر ، إن هذا هو الذي يتكلم الكلام الجديد ويعطي المفاهيم بالأسلوب التربوي الجديد العادل الذي لم يكن يخطر قبل الظهور على بال... دون أي شخص آخر .

... هذا آخر ما نود التعرض إليه من خصائص الخطبة المباركة ... موكلين الخصائص الأخرى إلى فطنة القارىء .

الجهة الرابعة من هذا الفصل :إن مقتضى التسلسل المنطقي للدعة الإلهية ، التي يمثل المهدي (ع) حلقة من أكبر حلقاتها ، هو أن يقيم المعجزة في أول ظهوره إثباتاً لصدق مدعاه :بأنه المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . ولا أقل أمام المؤمنين المخلصين ممن سيصبحون خاصته . لوضوح أنه لولا ذلك لأمكن لأي شخص جريء أن يقف في المسجد الحرام بين الركن والمقام ويلقي مثل هذا الخطاب ،وخاصة بعد أن يقرأ الخطبة في مصادرها ، فكيف يمكن أن نصدق من شخص أنه هو المهدي لمجرد أن يقف هذا الموقف.

تماماً ، كما هو الحال في النبوة ، فإنه لا يمكن تصديق أي شخص مدع للنبوة ما لم تقترن دعواه بدليل يوجب القطع بكونه نبياً مرسلاً ،ومن هنا أقام نبي الإسلام (ص) معجزات كدلائل على صدقه ، تقطع حجة المنكرين. كان أهمها القرآن الكريم نفسه .

وقد أسلفنا في التاريخ السابق أن المهدي (ع) عند مقابلاته مع الناس خلال غيبته .كان يقيم الدلالة على حقيقته ،وهي دلالة تحتوي دائماً على عنصر إعجازي ،وإلا لأستحال التعرف على حقيقته ، أو تصديقه في دعواه إذا قال لنا :أنه هو المهدي (ع) .

وقد سبق أن عرفنا في التاريخ المشار إليه(1) وغيره من بحوثنا : أن المعجزة لا توجد عشوائياً .وإنما لها قانونها العام ،وهو انه تقع في طريق إقامة الحجة (إذا كانت منتفية) أو إتمامها (إذا كانت ناقصة) .ومن الواضح جداً ، أن إقامة المهدي (ع) للمعجزة بعد ظهوره يكون في طريق إثبات الحجة على صدقه ، توصلاً إلى تطبيق العدل الإلهي الكامل على وجه الأرض ،وهو الهدف الإلهي المهم الذي عاشت البشرية التخطيط له وبإتجاهه منذ ولادتها إلى ذلك الحين .لوضوح أنه ما لم تثبت شخصيته الحقيقية لا يستطيع هو أن يحصل على المؤيدين والمؤمنين ، ومن ثم لا يستطيع القايم بهذا التطبيق والوصول إلى ذلك الهدف .


صفحة (233)

ـــــــــــــــــ  

(1) ص32

 

إذن ، فقد يستنتج من هذه المقدمات ، لزوم أن يقيم المهدي (ع) معجزة واضحة منذ موقفه الأول ، ليثبت حقيقته بكل صراحة ووضوح تجاه العالم . مع العلم أننا لا نجد في الروايات الناقلة لهذا الموقف أي إشارة إلى كونه مقيماً للمعجزة في ذلك الحين .

ويمكن الجواب على ذلك ، من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن الإمام المهدي ليس بحاجة في موقفه هذا إلى إقامة المعجزة على الإطلاق .

ذلك لوجود الإرهاصات الكافية لظهوره في زمن قريب، وهي قائمة على إعجاز عظيم وأوضحها معجزتا الكسوف والخسوف في غير أوانهما ... والخسف بالجيش الذي يحاول قتله ... والنداء باسمه صراحة في إسماع الخلق . فيكون القطع بصدق من اجتمعت فيه هذه الخصائص ضروري لازم .

واما احتمال :أن شخصاً محتالاً يستغل الموقف بعد حدوث الخسف وقتل النفس الزكية بالمضمون السابق للخطبة ، فهو في غاية البعد ....ولو حدته نفسه بذلك فإنه يقتل لا محالة في موقفه ذاك ، أو يلقي عليه القبض ويفشل مخططه البتة ..ولن يستطيع الحصول على العدد الكافي لغزو العالم بالعدل ، ولا بعض منه .

إذن ، فكل من يحصل له ذلك ، هو المهدي الحقيقي بكل تأكيد .

الوجه الثاني : هناك في العالم – طبقاً للتصور الإمامي لفكرة المهدي (ع) – عدد غير قليل من الناس يعرف المهدي بشخصه ولا يحتاج إلى إقامة المعجزة للتعرف عليه ، لأنه رآه خلال غيبته مرة أو عدة مرات ،وهم كل الأفراد المخلصين من الدرجة الأولى وبعض الأفراد المخلصين من الدرجة الثانية .من الدرجات التي أشرنا إليها سابقاً .

وقد كان هؤلاء هم وسائطه إلى الناس ـ بشكل وآخر ـ خلال غيبته .وسيكون لنا بأنفسهم رادة الحق والعدل واللسان الناطق والسيف لتضارب بين يدي قائدهم المهدي (ع).

فمن الممكن ـ بغض النظر عن أي شيء آخر ـ أن يكون هؤلاء هم الشاهد الصادق في تعريف قائدهم إلى الناس ، ريثما يثبت من مجموع أعماله وأقواله صدقه وعظمة أهدافه .ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزة .

 

صفحة (234)

 

الوجه الثالث: إن المهدي (ع) ليس بحاجة إلى المعجزة ، بل يستطيع أن يعتمد على المستوى الفكري والعقائدي والمفاهيمي الذي يعلنه لإثبات صدقه وعظمة أهدافه .

فإن المعجزة مطلوبة لأجل إقناع الفكر البشري غير المعقد . وهذا ما سيحصل بشكل عميق وأكيد عند إعلان المستوى الفكر الجديد ... فيكون الإتجاه نحو المعجزة أمراً مستأنفاً .

ويمكن تقسيم المستوى الفكري الذي يقيمه الإمام المهدي في أول ظهوره إلى مستويين :

المستوى الأول : ما يقوله (ع) في خطبته مما وردنا وسمعناه ومما لم يردنا ولم نسمعه .فإنه لا دليل على اقتصاره(ع) في حديثه على هذا المقدار بل لعل يذكر أموراً أخرى لم يكن المستوى الفكري السابق في عصر صدور النصوص مناسباً للتصريح بها في الأخبار طبقاً لقانون (كلم الناس على قدر عقولهم) .

ولعمري أن في هذا المضمون الذي سمعناه ما يكفي لإقامة الحجة ، لولا احتمال أن يكون منقولاً عن المصادر المتوفرة .

المستوى الثاني : استعداده (ع) للجواب على أي سؤال مهما كان صعباً ، فيما إذا عرفت أن السائل موضوعي الفكرة مطالباً للحق .... وأنه إنما يسأله لأجل التأكد من صدقه ،طبقاً للشك (الديكارتي) الذي لا يستقيم بدونه أي برهان .

وقد وردت حول ذلك رواية :هي ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني(1) بسنده عن مفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول :

لصاحب هذا الأمر غيبتان، إحداهما يرجع منه إلى أهله ، والأخرى يقال: هلك في أي واد سلك .  قلت : فكيف نصنع (2) إذا كان كذلك ؟ قال : إذا أدعاها مدع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله .

وهذا الأمر أوضح من أن يستند فيه إلى رواية ، لأنه هو المفهوم من الإتجاه العام للإمام المهدي (ع) ، بل من كل من يدعي منزلة عالية في القيادة أو في العلم أو في التقوى أو في جميعها... فإنه يمكن للفرد أن يختار السؤال الذي يعتقد بأن الجواب الصحيح يدل على صدق المجيب وجدارته على مستوى مدعاه ، فإن جاء الجواب صحيحاً لم يكن للسائل أن يجيب من جديد . إلا إذا كان معقداً غير طبيعي التفكير .


صفحة (235)

ـــــــــــــــــ  

(1) انظر الكافي ( الأصول ) نسخو محفوظة (باب في الغيبة )

(2) في المصدر المخطوط : بضنع وهو تحريف .