|
|||||
|
إن المهدي (ع) مع خاصة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني لمبعوث ضدهم .من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، يصبح من الواجب على أهل مكة نصرته ، بحسب تكليفهم في نصرة المؤمنين المظلومين ضد الظالمين ممن كان على شاكلة السفياني . ولكن لن يكون لأهل مكة استعداد للنصرة ، اما لأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (ع) في الإسلام، وإما لأجل خوفهم من سطوة السفياني وسلطته ،وحسبنا أننا سمعنا أن السفياني دخل الحجاز من دون مقاومة عسكرية ، لمدى الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس .ومن هنا يحافظ أهل مكة على مصالحهم الخاصة وينكمشون ضد المهدي (ع) .أعني : بعنوانه المعلن وإن جهلوا حقيقته . ويعلم الإمام المهدي (ع) بعدم استعدادهم لنصرته .فيقول لخاصته : يا قوم ، إن أهل مكة لا يريدونني .ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم ، بما ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم . ويكون هذا الإحتجاج اتماماً للحجة عليهم ، ومواجهة صريحة لهم بالموقف حتى لا يبقى منهم غافل أو مماطل . ومن هنا يفكر المهدي (ع) بأن يرسل شخصاً من قبله إلى أهل مكة ليقوم بهذا الإحتجاج. فيدعو بعض أصحابه ، وهو من الهاشميين ومن المخلصين الممحصين ، على ما سنعرف في الوجه فيه... ويحمله رسالة شفوية معينة ، ويأمره بأن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام وقد سمعنا نص الخطبة في الأخبار . وينبغي هنا أن نلاحظ أنه حين يقول : أنا رسول فلان إليكم ... لا دليل على أنه يورد اسم المهدي (ع) بحقيقته ويعرف المخاطبين أنه هو المهدي الموعود ، بل لعله يورد الإسم أو العنوان المعلن اجتماعياً له (ع) في ذلك الحين . وما أن يسمع أهل مكة هذه الخطبة ، حتى يجتمعون عليه ويقتلونه بين الركن والمقام قرب الكعبة المشرفة في بيت الله الحرام .ولعلهم يقطعون رأسه ويرسلونه إلى السفياني ، ليكون لهم الزلفى لديه .
صفحة (178) هكذا تقول إحدى الروايات السابقة ، ولكننا عرفنا أن مركز السفياني يومئذ لن يكون هو الشام بل هو العراق، وإن كان كلا القطرين تحت سيطرته وهذا له عدة توجيهات ، أوضحها : احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت قد ترك مركزه وسافر إلى الشام لإنجاز بعض المصالح المعينة ، ريثما يعود مرة أخرى . وعلى أي حال ، فإنهم حين يفعلون ذلك ، يكونون قد عصوا العديد من أهم أحكام الإسلام وضروريات الدين .منها : المحافظة على حرمة البيت الحرام الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً .ومنها : قتل النفس المؤمنة بدون جرم وبغير نفس ومنها : رفض نصرة المستنصرين بالحق .فيشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض ، فيأمرالإمام المهدي (ع) بالظهور لأخذ الحق ودحر الظالمين . ويكون رسول المهدي (ع) هذا هو النفس الزكية الموعود قتلها بين الركن والمقام ، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمس عشرة ليلة . وهذا هو التصور العام الذي تعكسه هذه الأخبار ولتاريخ تلك الفترة .وهو تصور سليم إلى حد كبير.لا يكاد يرد عليه إلا المناقشات القليلة الآتية التي لا تغير من جوهره شيئاً . ومعه لا حاجة إلى الحمل على الرمز ، لما قلناه من أنه يتعين ذلك عند قيام الدليل على بطلان المعنى (الصريح) . إلا أن ارتفاع هذا الفهم إلى مستوى الإثبات التاريخي ، منوط بصحة تلك الأخبار وصلاحيتها للإثبات ، وهذا ما سنبحثه غير بعيد. الناحية الثالثة : في نقد بعض الإعتراضات التي تورد على هذا الفهم العام : الإعتراض الأول : أنه كيف تيسر لرجل واحد أن يخاطب أهل بلدة بكاملها ، بشكل طبيعي غير إعجازي . إلا أن هذا السؤال يحتوي على سذاجة واضحة ، لوضوح كفاية قيام الفرد خطيباً في المسجد الحرام المحتشد بأهل مكة ، مستعملاً الأجهزة الحديثة لبث الصوت وتكبيره .لكي يستطيع الفرد أن يخاطب لأهل مكة جميعاً ، ويبلغ الحاضر منهم الغائب في أقل من ساعة من نهار . وقد يخطر في الذهن أنه من اين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع ،واستعمال المكبرات .
صفحة (179)
وجوابه : أننا لم نلاحظ إلى الآن في (النفس الزكية) إلا جهته الخفية وهو أنه من خاصة الإمام المهدي (ع) في أواخر عصر الغيبة . ولم يتيسر لنا ملاحظة الجهة الإجتماعية المعلنة له عادة . إن اختيار المهدي (ع) له لينوب عنه بالتبليغ ، ليس جزافياً ، إلا بعد إحراز النجاح في ذلك ، أعني التبليغ ، وله القابلية الفكرية والإجتماعية المعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره . فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً أو وجيهاً أو له درجة من المسؤولية والسلطة في المجتمع ، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخطب بهم بواسطة اجهزة التكبير . وخاصة إذا عرفنا أنه سيقول قولته والناس لا زالت مجتمعة بعد الحج .فقد وردت روايات سنسمعها تعرب عن أن الظهور سيتم في اليوم العاشر من محرم الحرام ، فإذا استثنينا من ذلك خمس عشرة ليلة ، كان موعد الخطاب النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام . أي بعد انتهاء اعمال الحج بحوالي عشرة أيام. الإعتراض الثاني : أنه كيف أمكن للنفس الزكية أن يطلع على حقيقة الإمام المهدي (ع) خلال عصر غيبته ، ويحمل منه الرسالة إلى أهل مكة .مع أن ذلك متعذر بالنسبة إلى كل أحد، إلى حين حصول الظهور . والجواب الأولي الواضح لذلك، هو ان الإرسال كان من قبل الإمام المهدي (ع) نفسه ، وهو العالم بالمصالح، ويستطيع أن يكشف حقيقته للفرد ، اياً كان ، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق . لكننا لو عبرنا عن الإعتراض بتعبير آخر من زاوية ما عرفناه في التاريخ السابق(1) من أن مصلحة الغيبة مقدمة على كل مصلحة ، فكيف جاز للإمام (ع) أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل ، مهما كان صالحاً . يمكن الجواب على ذلك من عدة وجوه نلخصها فيما يلي : الجواب الأول :أن ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة على كل مصلحة ، وإن كان صحيحاً ،إلا أن السر الأساسي فيه هو : أن كشف الغيبة وارتفاعها مناف مع حفظ المهدي (ع) لليوم الموعود . ومن ثم تكون مصلحة الغيبة هي مصلحة اليوم الموعود . ومصلحة ذلك اليوم مقدمة على كل مصلحة .
ـــــــــــــــــ
(1) تاريخ الغيبة ص49. |
||||
|
|||||