|
|||||
|
وقد شكى المجتمع المتضرر لهذا القائد من حملات اؤلئك البدائيين : " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، فهل نجعل لك خرجاً "(1) اي أجرة ، لكي تكفينا شرهم وتكسر سوكتهم . وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يعلن دعوة الله في الأرض ، ويحصر نشاط ذلك المد المادي في أضيق نطاق، وأن يعيد المجتمع البشري إلى سابق عهده ، من كون الإتجاه المسيطر هو الشكل الثاني للأيدولوجية ، ويبقى الإتجاه الأول إتجاهاً شخصياً متفرقاً . وقد اتخذت تدابير ذي القرنين في هذا الصدد ، شكلين أساسين : الشكل الأول : بناء السد الموصوف في القرآن الكريم المتكون من الحديد والصفر ،وهو يحتوي على الحماية (العسكرية) من هجمات القبائل البدائية الملحدة . الشكل الثاني : بناء السد المعنوي في المجتمع المؤمن، وزرع المفاهيم وقوة الإرادة الكافية ضد الإنحراف والفساد. ولعل في الإمكان مع بعض التوسع في فهم القرآن الكريم ، أن نحمل السد الموصوف فيه على السد المعنوي الذي يفصل بين الحق والباطل .وأن الحديد والصفر عبارة عن مكوناته المفاهيمية . إلا أننا نعرض ذلك كأطروحة محتملة ، على غير اليقين … وإن كان ذلك ممكناً في لغة العرب .ولكننا سنسير بهذا الإتجاه ريثما تتم هذه الأطروحة . " قال: ما مكني فيه ربي خير" مما لديكم من المال والحطام ، بعد ان مكنه الله تعالى من الملك والهداية معاً. وكان السد الذي بناه ذو القرنين ، ضخماً ومهماً إلى حد يكفي لكبح جماح البدائيين الملحدين ورد عاديتهم ، "فما استطاعواأن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " . فإن الإتجاهات الملحدة تكون دائبة في نشرعقيدتها واختراق السد الإيماني وقهر قوة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين وإلا أن سد ذي القرنين ، كان منيعاً لا يمكن لهذه الاتجاهات أن تؤثر فيه . ولكنه على أي حال ، لم يستطع القضاء عليه نهائياً ، بل بقي بوجوده الضعيف مؤثراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع "وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض" . ولم يكن مقدراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود . لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية ، ولذا كان لا بد من الإقتصار على كبح جماحه وكسر شوكته فقط ، ببناء السد ضده ، على وجه الأرض أو في نفوس المؤمنين .
(1) الكهف : 18 / 49
ومن هنا بقي هذا الإتجاه في التاريخ ، لكي يتمحض بعد حوالي ثلاثة آلاف عام من السيطرة الجديدة للمادية على البشر للمرة الثانية ، ولكنها في هذه المرة لست بدائية ، ولكنها مادية (تقدمية) ومعقدة ومفلسفة وذات شعارات براقة .وذات قوة ومنعة بحيث يصعب مجرد التفكير في منازلتها فضلا ًعن القضاء عليها .وهو معنى قوله في احد الاخبار السابقة : لا يدان لأحد في قتالهم . لقد خرقت السد القديم ، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح جماحهم ، إن ذلك السد كان مناسباً مع مستوى عصره العقلي والثقافي والعسكري ، ولم يعد الآن كافياً " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون " (1) أي من كل جهة ينتشرون .كذلك انتشرت المادية الحديثة . وتسيطر الحضارة المادية على خيرات البلاد الإسلامية ، في ضمن سيطرتها على العالم كله. وتستولي مصادرها الطبيعية ، فتشرب البحيرات ،والأنهار – كما أشارت الأخبار – بمعنى أنها تستغلها تماماً لصالحها ،وتمنع أهلها من الإستفادة منها . فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومةا لمستعمرة " حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لإحدكم اليوم ". وتأتي الأجيال المتأخرة من أتباع الحضارة المادية ، فيقولون :" لقد كان بهذا المكان ماء " فإنهم عرفوا من التاريخ أن هذه المنطقة كانت تغل لأهلها وتفيدهم ،وأما الآن – بعد سيطرة الحضارة الكافرة – فقد أصبحت الغلات لها . وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلى أهل البلاد . وأما المسلمون المخلصون ، فينحازون عنهم ويبتعدون عن ممالأتهم والسير في طريقهم ، خوفاً على إيمانهم من الإنهيار ، وعلى سلوكهم من التفسخ والإنحلال . وحين تتم للحضارة المادية الملحدة ، بسط السيطرة على الأرض ، تتجه أطماعها إلى السماء ،ومن هنا نجدهم " يقولون :هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ، ولننازلن أهل السماء " .
(1)الأنبياء : 21/ 96
وهذا بمعناه – الرمزي – مما حدث فعلاً ،فإن الحضارات المادية بعد أن أحكمت قبضتها على الأرض ، طمعت بغزو السماء ، بدئة بالأقرب من الكواكب .ومنهنا انبثقت فكرة غزو الفضاء الخارجي والسير بين الكواكب . " فيرمون نشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة بالدم " . وهذا – بمعناه الرمزي – مما حدث فعلاً ، متمثلاً بإطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية .فأعجب لمثل هذه التنبؤ الصادق الذي لم يكن للنبي (ص) أن يصرح به في عصره إلا بمثل هذا الرمز ، طبقاً لقانون " كلم الناس على قدر عقولهم ". ومعنى كونها تعود مخضبة بالدم ، هو أنها محاولات ناجحة ، تنتج الأثر المطلوب المتوقع ... فكما أن المتقع من القتل بالحربة أو السهم أن تتخضب بالدم ، كذلك من المتوقع للمركبات أن تنتج الخبرات العلمية المطلوبة ،وأن تجلب التراب من القمر – مثلاً – ولعل في التعبير بان السهام " ترجع ، عليها الدم الذي اجفظ " أي فاض وغزر.... فيه إشارة واضحة على ذلك ...بعد العلم أن السهم الإعتيادي لايفيض منه الدم ، وإنما يراد بذلك التأكيد على مدى نجاح الرحلات الفضائية ،وسعة ما تنتجه من تنتائج ومن حيث العمق والإنتشار في العالم . وحين يتم لهم ذلك ، ينالهم الغرور بعلومهم ومدنيتهم " فقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ". وكل حضارة ينالها الغرور ، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية ، لا بد أن يحكم عليها بالزوال ،ويكون غرورها نذير فنائها واندثارها ... طبقاً للقانون الذي يعرب عنه قوله تعالى :" حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنها قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ، فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون" (1) . وكما كان للإسكندر ذي القرنين الدور الأهم في منازلة المادية الأولى ... سيكون للقائد المهدي (ع) الدور الأهم في منازلة المادية الحديثة .ولذا قورن الإمام المهدي (ع) بذي القرنين بعدد من الرزايات ، كما سنسمع بعد ذلك وسيكون للمسيح (ع) مشاركة فعالة في هذا الصدد، تحت قيادة القائد المهدي (ع) ... إلى حد يمكن أن نعبر عنه بأنه السبب المباشر لذلك ، مع شيء من التجوز والتعميم .ومن هنا تسبب موت ياجوج ومأجوج إلى عمله وجهوده ، كما سمعنا من بعض الأخبار .
صفحة (153) (1) يونس 10/24
|
||||
|
|||||