واخرج الصحيحان (1) وغيرهما بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت : أن النبي (ص) استيقظ من نومه وهو يقول :لاإله إلا ألله ، ويل للعرب من شر قد اقترب .فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه .

وعقد سفيان بيده عشرة .قلت : يا رسول الله ، أفنهلك وفينا الصالحون ؟

قال: نعم . إ ذا كثر الخبث. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، جودّ سفيان هذا الحديث .

واخرج أبو داوود(2) بإسناده عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه : فقال رسول الله (ص) : لن تكون أو لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات : ... وعد منها : خروج ياجوج ومأجوج .

وينبغي أن نتكلم حول هذه الأخبار في عدة نواحي :

الناحية الأولى : أنه لا يمكن الأخذ بالدلالة (الصريحة) لهذه الأخبار الأمر الذي يعين علينا الإلتزام بالفهم (الرمزي) لها ، وذلك لوجود عدة موانع عن الأخذ بصراحتها ، نذكر منها ما يلي :

المانع الأول :  وجود التهافت بين بعض مدلولاتها ، الأمر الذي يسقطها عن قابلية الإثبات التاريخي .

فإن الخبر الذي اخرجه  مسلم ورويناه في التاريخ السابق ، يدل على وجود نبي الله عيسى بن مريم (ع) بين المسلمين عند انتشار يأجوج ومأجوج .وقد أعرضت عنه سائر الأخبار الأخرى ،فتكون دالة على عدم وجوده، لأن وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها .

كما أن ذاك الخبر دال على لأن زوال يأجوج ومأجوج  كان بدعاء المسيح وأصحابه ، وإن إزالة جثثهم كان بدعائه أيضاً .والأخبار الأخرى خالية عن ذلك .ويدل خبر ابن ماجة على أنهم  يهلكون بإرادة مباشرة من الله عز وجل .

كما أن خبر مسلم يتضمن لوجود المطر الذي يغسل الأرض من نتنهم بعد زوال جثثهم ….وهذا ما سكتت عنه الأخبارالأخرى ، واعتبرته كأنه لا حاجة إليه .

 

 صفحة (148)
ـــــــــــــــــ
 

(1) انظر صحيح البخاري ج8ص 76

(2) وصحيح مسلم ج8 ص 265 واللفظ لمسلم .

(3) انظر السنن ج2ص429 .

 

كما أن خبر مسلم دال على أن الطير تنقل الجثث إلى حيث يشاء الله ،ولكن خبر ابن ماجة دال على أن الأغنام تأكل لحومها فنشكر عليها أي تسمن أحسن من أكلها للنبات .

المانع الثاني: قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار على المعجزات ، بشكل يتنافى مع (قانون المعجزات) الذي تم البرهان عليه في محله .

منها : موت ياجوج ومأجوج . فجأة بطريق إعجازي .وهذا غير ممكن في قانون المعجزات ،فإن اسلوب الدعوة الإلهية – كما قلنا – قائم على مقابلة السلاح بالسلاح ، وتحصيل النصر بالكفاح ، لا عن طريق المعجزات .وبتعبير آخر :إن كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي ، مهما يكن صعباً وبعيداً ، لا تقوم المعجزة بتحصيله ، ومن الواضح أن تربية وتأديب يأجوج ومأجوج . أو استئصالهم إذا لم يتأدبوا ، أمر ممكن بالطريق الطبيعي .

ومنها : أن افتراض أكل الماشية للحم .وهو أمر غريب ولا مبرر له في قانون المعجزات ، ويزيد غرابة استفادتهم الصحية من أكل اللحم أكثر من أكل النبات .

ومنها : ما ذكر من تصرفات يأجوج ومأجوج أنفسهم ، كشربهم بحيرة طبرية حتى تجف ، كما في خبر مسلم، أو شربهم النهر حتى يجف ، كما في خبر أبن ماجة ،فإن هذا مما لم يتضح فهمه ، مهما تزايد عددهم وطال بقاؤهم ، ومهما طالت اجسامهم ، كما تقول الأساطير .

ومنها : إرسالهم السهام إلى السماء لأجل غزوها ... وليس في هذا غرابة إذا كانوا أغبياء إلى هذه الدرجة …وإنما الغرابة في أن تعود السهام مكسوة بالدم من أجل إيهامهم بأنهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء ... فإنه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر ، فضلاً عن موافقته لقانون المعجزات .

هذا ولكن أغلب هذه الأشياء ستصبح حقائق ، عند دمجها في تكوين متكامل من الفهم الرمزي ، على ما سنذكر بعد قليل ،ومعه تصبح هذه الإعتراضات ، واردة على الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار ، لا للمقاصد الحقيقية منها .

 

 صفحة (149)
 

الناحية الثانية : في عرض اطروحة متكاملة لفهم يأجوج ومأجوج . منطلقة من الفهم الرمزي للأخبار.

مرت البشرية ، بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام ، بشكلين منفصلين من الأيدولوجية :

الشكل الأول : الإتجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلية ، ونستطيع أن نسميه بالمادية المحضة أو الإلحاد التام .

الشكل الثاني :الإتجاه الذي يربط العالم بوجود لخالقه ، بشكل أو آخر .

ولكل من هذين الإتجاهين فروعه وانقساماته التي تختلف باختلاف المستوى العقلي والحضاري للمجتمع البشري .

ويمكن القول بأن تاريخ البشرية على طوله عاش في الأعم الأغلب الإتجاه الثاني ، بمختلف مستوياته ونتيجة لجهود الأنبياء وتربية الصالحين ،ومهما فسد المنحرفون والمصلحيون ، فإنهم لم يخرجوا عن الإعتراف الغامض بالخالق الحكيم .ويكفينا مثالاً على ذلك قوله تعالى على لسان مشركي قريش :" ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"(1) فهم بالرغم من تطرفهم بالكفر ، مؤمنون بالخالق ، ومن ثم مندرجون في الإتجاه الثاني .وعلى هذا الغرار .

يقابل ذلك ، الإتجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً .. والمعطي زمام قيادة الإنسان بيد نفسه ، بالرغم  من قصوره وتقصيره .

ولم يوجد على مر التاريخ لهذا الإتجاه وجود مهم ، فيما عدا الأفكار الشخصية المتفرقة في التاريخ….  ما عدا مرتين – فيما نعرف – :  المرة الأولى : إتجاه المادية  البدائية ، المتمثلة بشكل رئيسي في قبائل يأجوج ومأجوج .والمرة الثانية : إتجاه المادية الحديثة المعاصرة ، بمختلف أشكالها وألوانها .

وقد كان المد المادي الأول خطراً وبالغ الضرر ، على ذوي الإتجاه الثاني عموماً ، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المتبعة لدعوات الأنبياء .ولعل القسط الأهم من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي ، وإن كان هذا موجوداً من اؤلئك الملحدين البدائيين …. وإنما الأهم من أشكال الضرر هم الضرر الإجتماعي والإقتصادي وأشكال القتل والنهب الذي كانت توقعه القبائل البدائية الملحدة على المجتمع المؤمن .

ومن هنا ، خطط الله تعالى للقضاء الحاسم على هذا المد الواسع ، بإيجاد قائد كبير ذو حركة عالمية وقدرة واسعة ، وممثل لأفضل أشكال الإتجاه المؤمن، هو الإسكندر ذو القرنين .


صفحة (150)
ـــــــــــــــــ
 

(1) الزمر : 29/3