|
||
|
نعم ،من المنطقي الصحيح ، أن يجمع المهدي (ع) المسلمين على الحق الذي يعتقد به . وأن يختبر الناس على أساسه ، إلا أن هذا لا يعني بأي حال اقتصار جهوده على المسلمين ، بعد الذي سنبرهن عليه من عالمية دعوته من ناحية والعلم الوجداني ، بأن غير المسلمين أضعاف المسلمين إلى حين أو الظهور ، كيف وإن الأرض كانت وستبقى إلى يومئذ مملوءة ظلماً وجوراً . إذاً ، فالجهود المبذولة من قبل المهدي (ع) ،وأصحابه الخاصة المخلصين على سائر العالم، أضعاف الجهد المبذول على المسلمين ، أو قل تعادلهما على أقل تقدير ، أما أن تكون الجهود المبذولة على المسلمين أضعاف جهوده على غيرهم ، كما تدل عليه المصادر الخاصة ، فهو مما لايكاد يفهم . ولعل فبالإمكان إعطار المبررات الكافية لمثل هذا الإتجاه في الأخبار ، إلا أنها – بأي حال – تبقى مقتضبة بالنسبة لموقف المهدي (ع) من غير المسلمين . وأهم تبرير لذلك ، هو كون هذه الأخبار في واقعها انعكاساً للظروف المعاشة في زمن صدورها .ولا نعني بذلك كونها كاذبة أو مفتعلة على نسق معين ، فإن لكل خبر حسابه الخاص طبقاً للمنهج الذي أسلفناه . بل تعني أن ظروف الظلم والمصاعب التي كان يعيشها أصحاب الأئمة(ع) في المجتمع الإسلامي. من الدولتين الأموية والعباسية . كانت تعكس في نفوس القواعد الشعبية الأمامية الإعتقاد بأن الجبهة المضطهدة – بالكسر – لها ، تمثل المذاهب الإسلامية الأخرى ، ومن ثم تكتسب القضية المذهبية في أذهانهم عمقاً وأصالة ، أكثر من نسبتها العالمية ، لو صح التعبر . ويكون هو بحاجة إلى رفع معنوياتهم من قبل قادتهم الأئمة المعصومين (ع) ، من هذه الناحية أكثر من أي ناحية أخرى . وذلك باستخدام عدة طرق من أهمها : الكشف عن هذا الجانب بعينه من أعمال الإمام المهدي (ع) والسكوت عن أعماله الأخرى التي لا تمت إلى حاجة المجتمع بصلة وثيقة ، وإن كانت تمثل الجانب الأكبر في دولته . ومن المستطاع القول ايضاً ، أن الفجوات التي تركت ، لم يكن المجتمع عموماً ليهضمها بوضوح ، باعتبارها ممثلة لتصرفات المهدي (ع) على المستوى العالمي وفي عمق الوعي الذي يريده ، مما لم يكن المجتمع في عصر صدور هذه الأخبار على مستوى استيعابه . ومن ثم كان قانون " كلم الناس على قدر عقولهم " مانعاً للمعصومين (ع) عن الإعراب والكشف عن هذا الجانب من دولة المهدي (ع) مهما كان واسعاً .
وعلى أي حال ، فهذه الصعوبة التي نحن بصددها ، تعتبر واقعاً لا محيص عنه وإن علاقات المهدي بغير المسلمين ، لم تذكرها الأخبار إلا بأقل القليل . الصعوبة الخامسة : ما يعود إلى نقص الباحث بصفته ممثلاً لمرحلة معينة من تطور الفكر الإسلامي . ويتم إيضاح ذلك بتقديم عدة نقاط : النقطة الأولى: الفكر الإسلامي بصفته مجموعة من الحقائق والتشريعات كما يعرفها الله ورسوله وأولياؤه (عليه وعليهم السلام ) ... وهو الفكر الإسلامي الأعلى . والأطروحة العادلة الكاملة للحياة . المستوى الثاني : الفكر الإسلامي الموجود عند علماء المسلمين والمفكرين الإسلاميين على مر العصور، وهو في واقعه ناقل للمستوى الأول وحاك عنه ومنبثق عنه إلى حد كبير نتيجة للتبليغات والبيانات التي قيلت من قبل المشرع الإسلامي المقدس في الكتاب الكريم والسنة الشريفة . والمقصود الأساسي هو تربية الأمة على فهم وامتثال المستوى الأول عن طريق ممارستها وتدقيقها للمستوى الثاني ، بصفته ممثلاً لمستوى الأول ، وهي بأجيالها المتعقبة كفيلة بأن تقوم بذلك تدريجياً وكما سبق أن عرفنا في التاريخ السابق . ولا زال الفكر الإسلامي بمستواه الثاني في طريق التطور والتعمق والتوسع . ومن هنا صح أن يقال : إن كل جيل أو عدة أجيال من الأمة الإسلامية يمثل مرحلة للفكر الإسلامي . ولا زال الفكر الإسلامي في طريق الرقي، وينبغي الأعتراف بعدم وصوله إلى الكمال . ووجود عدد من البحوث غير المطروقة فيه ، كما هو غير خفي على المحققين في هذا الصدد. النقطة الثانية : إنه ينتج من ذلك : أن كل باجث ومفكر ، هو بطبيعة تكوينه ابن الفترة التي يعاصرها والزمن الذي يمر فيه . ويتعذر عليه بالمرة ، مهما أوتي من عبقرية وطول باع ، أن يسبق الزمن ، فيدعي الوصول إلى المستوى الأول للفكر الإسلامي ، أو أنه محتو على وعي وثقافة الأجيال الإسلامية القادمة من المستوى الثاني .... تلك الثقافة القائمة على انكشاف ما في سوابقها من الأخطاء ، وملء ما فيها من فجوات .
إذاً فكل باحث يحتوي على قصور طبيعي وذاتي في تفكيره الإسلامي بصفته ممثلاً لمرحلة معينة من تطور الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتعداها . في حين يمثل الإمام المهدي (ع) بما ينشر في عصر ظهوره من ثقافات وأفكار وتشريعات ، يمثل المستوى الأول من الفكر الإسلامي ، ويصل بالمستوى الثاني إلى صف المستوى الأول تماماً كما نصت على ذلك الأخبار ، واعترف به سائر مذاهب الإسلام من أن يطبق أفسلام كما جاء به رسول الله (ص) . ومن هنا تنشأ الصعوبة ، من أن يتصدى باحث قاصر للتفكير فيما يتعدى عصره ، وللتوصل إلى حقيقة شخص كامل ومجتمع عادل. النقطة الثالثة :أنه بعد الذي عرفناه من فجوات ومصاعب فيما وردنا من الأخبار من تاريخ ما بعد الظهور ، سوف نضطر – على ما سنعرضه عن قريب – إلى تذليل هذه المصاعب عن طريق انتهاج القواعد الإسلامية المعروفة ، في عدة مجالات : في فهم النصوص عامة ، وفيما هو المقصود من الإستعمالات الرمزية خاصة ، في محاولة التعرف على الإتجاهات العامة التي سيسير عليها الإمام القائد على الصعيدين الإجتماعي والتشريعي ، وفي ترجيح بعض النصوص على بعض إلى غير ذلك من المسؤوليات في البحث والإستنتاج . ويبدو من الواضح ، بعد هذه النقاط : أن كل باحث إنما يملأ هذه الفجوات بمقدار ما لديه من الثقافة الإسلامية وما وصل إليه تطور الفكر الإسلامي في عصره .ويستحيل في حقه أن يصل إلى الواقع الراهن القائم بعد عصر الظهور على عمقه وشموله . وبخاصة بعد ورود ما سنسمعه في العديد من الأخبار من أن المهدي (ع) يأتي بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد . ولعل من أوضح أمثلة ذلك كما ذكره ابن عربي ( في الفتوحات المكية ) (1) عن تاريخ ما بعد الظهور ، مما يظن أن المهدي (ع) يقوم به من تصرفات وما يعينه من وزراء وما يسنه من تشريعات، فإنه إنما كتبه بمستواه من التفكير الإسلامي ، ونحن نجده الآن – بعد تعمق الفكر الإسلامي- في غاية الغرابة والتعقيد .
الصعوبة السادسة : أنه قد يخطر على الذهن في نقد الأخبار الشارحة لحوادث الفترة التي نؤرخها : أنها قائمة على المعجزات وخوارق العادات ، وهي بطبيعتها بعيدة الحدوث صعبة التصديق ، ومن ثم يشكل ذلك ضعفاً في هذه الأخبار وصعوبة في فهمها واستيعابها . إلا أن هذه الصعوبة ومما لا يمكن إدراجها في قائمة المصاعب الحقيقية للبحث ، تلك المصاعب التي تضطر الباحث إلى التسليم بالأمر الواقع ، وإدخال النقص الحقيقي على بحثه . فإن هذه الصعوبة ليست كذلك ، وإنما تعتبر نقطة ضعف في البحث عند اتجاه المفكرين الذين اسقطوا المعجزات عند نظر الإعتبار . فإن عدداً مهماً من تلك الأخبار لا تحتوي على الإشارة إلى أي معجزة على الإطلاق . وإنما تروي أعمال المهدي (ع) ومنجزاته وعدد أصحابه وغير ذلك ، ومعه فلا تكون مشمولة هذه الفكرة أساساً. وأما الأخبار الدالة على المعجزات منها : فينبغي فحصها ومحاسبة كل خبر وكل حادثة على حدة ، فما كان منها مطابقاً لقانون المعجزات الذي برهنا عليه في ( تاريخ الغيبة الكبرى)(1) .. أخذنا به ، بمعنى أنه لم يواجه صعوبة من هذه الناحية . وما كان خارجاً عن حدود هذا القانون ، كان مرفوضاً من هذه الناحية وساقطاً عن الإثبات التاريخي . وقد سبق أن طبقنا ذلك بدقة في الكتاب المشار إليه . ويكون ذلك من القواعد العامة الدالة على تكذيبه . إذاً ، فهذه الصعوبة ، لا تكاد تشكل عقبة حقيقية تجاه هذا البحث ، وإنما المهم هو الصعوبات الخمس الأولى . ولابد من البحث عن إمكان تذليلها و الكفكفة من عمق تأثيرها جهد الإمكان .
|
|