فإنه قانون عام لإختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص ... وهو كل عصر يواجه فيه الناس دعوة جديدة وتربية جديدة لم تختبر مواقفهم تجاهها ، ولم تعرف ردود فعلهم حيال المشاكل التي تعترضها فلا بد أن تمر الأمة المسلمة خلال هذا القانون ، ليكون له الأثر الفعال في تربية الأفراد وتعميق إخلاصهم وتقوية إرادتهم تجاه المشاكل .وبذلك يتميز الخبيث من الطيب ، ويعرف من يكون له موقف إسلامي صحيح تجاه المصاعب والعقبات . ومن يكون ذا موقف منحرف باطل .وهذا ميز واقعي بين الأفراد يمت إلى اختلاف قابلياتهم ومسبقاتهم الفكرية  والعقلية والنفسية بصلة ... قبل أن يكون مجرد انكشاف لدى الآخرين .

وقد سمعنا كيف أن هذا القانون ، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين على الإسلام ، ومشاركاً في تربيتهم مشاركة فعالة ، وقد شرحناه في التاريخ السابق(1) وقلنا(2) أن الحاجة – مع ذلك – تعن إلى سريان قانون  التمحيص إلى ما بعد الإسلام لتتربى البشرية طبقاً لمفاهيم وتشريع الأطروحة العادلة الكاملة .

وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام ، فكان مقتضى هذا القانون تمحيص الأفراد على أساسه خلال تربية الأجيال تربية بطيئة وطويلة وهذا هو التمحيص الساري في تخطيط ما قبل الظهور .كذلك سوف يواجه المجتمع المؤمن والبشرية جمعاء دعوة إسلامية جديدة بعد اندراس الإسلام وعوده غريباً أو نسيان وعصيان الكثير من أحكامه .وسيواجه في هذه الدعوة الجديدة نظاماً وقوانين ومفاهيم ، لم يكن له بها ساق عهد إلى القواعد الإسلامية السابقة .

ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة ، مجتمع ما قبل التمحيص. ويحتاج بمقتضى هذا القانون الشامل إلى أن يمر بعصر التمحيص خلال تربية طويلة وبطيئة ، لتتميز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوات الجديدة .ويأخذ كل فرد على قدر قابلياته وجهوده من النجاح والتكامل خلال التمحيص ،ما يستطيع .

وبينما كان التمحيص السابق ، ينتج فشل الأعم الأغلب من البشر ، كما عرفنا فإن هذا التمحيص وبصفته مدعماً بالأسس ، التي  سنعرفها  ، ينتج نجاح الأعم الأغلب من البشر ، وسيكون النجاح مطرداً ، حتى تصل البشرية في النتيجة  إلى المجتمع المعصوم .


صفحة (106)
   
ــــــــــــــــــ

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص255 وما بعدها .

(2) المصدر السابق ص266

 

 

الأساس الثالث للتخطيط الجديد: توفير جو من السعادة  والرفاه المادي المتزايد ، تحت جو من الأخوة والتضامن  والعدل الكامل . بأساليب معينة ستأتي في القسم الثاني الآتي من الكتاب .

والأساس النظري لإيجاد هذا الرفاه ، ليس هو مجرد نيل اللذة لأنها مهما كانت مهمة ، فإنها لا تكفي وحدها للسير بالبشرية  نحو هدفها المقصود النهائي ... وإنما يلاحظ الرفاه المادي بمقدار مايستطيع أن يؤثر في ذلك الهدف البعيد ويربي البشرية باتجاهه.

وذلك : من زاوية أن الرفاه المادي متناسباً مطرداً ، مع توفير الجو الكافي لذلك، ولايمكن أن يكون عائقاً عنه ، بعد أن يتشرب الناس ذلك الأساس النظري ، وهو ملاحظة الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف ، لا أنه بنفسه الهدف .ومن ثم ستكون زيادة الرفاه مؤيدة لتركيز التربية وترسيخ العدل ، ومن ثم المشاركة في بناء ذلك الهدف .

وهذا هو المؤدي الحقيقي لما سمعناه من الأخبار  في فصل سابق من كثرة المال فيعهد الإمام المهدي (ع) وأنه يقسم المال ولا يعده ... تلك الأخبار المروية من قبل الفريقين ، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين .

وقد يخطر في الذهن : أن توفيرالمال والرفاه ، إنما يكون من زيادة العمل . فيكون متناسباً عكسياً مع الهدف، لأن زيادة العمل  في سبيل الرفاه سوف يمتص الجهد الذي يمكن أن يبذل في الجانب الأخلاقي والعبادي. ولاتكون زيادة الرفاه مؤيدة لتركيز التربية ، كما قلنا .

والجواب على ذلك واضح جداً ، لمن استطاع استيعاب المفهوم  الصحيح للعبادة مع المفهوم الصحيح للعمل ، فإنه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً عن العمل مع أنه الأسلوب المهم في حصول الرفاه الأفتصادي المطلوب من أجل العبادة نفسها .وكيف يكون العمل عائقاً عن العبادة ، وهي الهدف الرئيسي للحياة . وبالنتيجة هم معاً واقعين في طريق الهدف البشري الأعلى .


صفحة (107)
   
 

ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على  مستويين :

المستوى الأول: أننا إذا فهمنا من العبادة  معنى لا ينطبق على العمل ، واصبح العمل  المتزايد  عائقاً عن العبادة ،فإن ذلك لايمكن أن يحدث تحت ظل النظام العالمي العادل ، إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل ، وتنظمها تنظيماً عادلاً يكفل إيفاء كل منهما للحاجة التربوية ، وتحصيله لنتيجته المطلوبة ، تحت إشراف القانون والدولة .

المستوى الثاني: أننا نفهم من العبادة معنى ينطبق على العمل ، ولا يتنافى معه .فإن العمل نفسه يمكن أن يصبح عبادة .إذا كان واقعاً في طريق العبادة ومطابقاً للنظام العادل الكامل ، فإنه يصبح آنئذ من أفضل العبادات في علاقة الفرد مع الآخرين ،ولانريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط الفرد بربه .وقد أعطينا في هذا الكتاب والكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك.

 ... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط ، وهذا الإستهداف فإن شعوره بذلك يجعله متصفاً من خلال عمله بالعبادة  ، وهو في معمله او متجره أو منجمه .

وهذا الشعور متوفر بطبيعة الحال تحت الإشراف التربوي للدولة العادلة .

لكن  العمل إذا انطلق من المفهوم ، فلن يكون مستهدفاً لذاته ، أو لمجرد الحصول على المال ،فإن العمل ما دام في سبيل المصالح العامة وتحقيق العبادة التامة ...إذاً ، قلته .ولا معنى لأن يكون العمل معيقاً عن تحقيق المصالح والأهداف .

الأساس الرابع للتخطيط الثاني: الإشراف العام لدولة على تفاصيل التطبق من الناحيتيتن  القانونية والإجتماعية .

حيث تشرف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة ، وتقوم ببعض التمحيصات على ما سنسمع ،ونراقب الأفراد من حيث رقيهم في الدرجات المطلوبة من الكمال ، وتساعدهم على النجاح والتكامل بالمقدار اللازم ، وتسجل فيسجل ضميرها من نجح من الأفراد ومن فشل منهم في التمحيص ، ومن له قابلية الرقي ممن ليس له ذلك.

وسنرى كيف يكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم . والتدخل في حياتهم الروحية والعاطفية والعقلية والإجتماعية  .وهذا مما يؤكد نجاح الدعوة المهدوية والتطبيق الكامل للعدل ، كما يؤكد اجتياز الأفراد للمراحل الأولى من الكمال بنجاح وسرعة وسهولة وهذا الأساس  مما يفترق به هذا التخطيط عن سابقه ، نتيجة لإختلافهما في الأهداف ، فقد كان الهدف من التخطيط السابق . تمييز الخبيث من الطيب وتكريس جهود

الطيبين و تعميق اخلاصهم ليكونوا الطليعة الأولى لدولة العدل العالمية في اليوم الموعود .ولم يكن هناك أي تاكيد على إنجاح الراسبين أو توفير فرص النجاح .بل إن الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام الإلهة الإسلامية ، فقد جنى بنفسه عل نفسه وسعى بظلفه إلى حتفه ، فليس وراءه إلا استحقاق العقاب .

صفحة (108)