ونحن إذ نتحدث عن هذه الأسس ، إنما نتحدث عما يمكن أن  يكون  كذلك في الفترة  الأولى للدولة العالمية ، وهي التي تسبق المجتكع المعصوم بكلا قسميه ، فإن هذا أقرب إلى إمكان التعرف عليه من تلك المجتمعات العليا المتأخرة . فإننا سبق أن أكدنا عجز الباحث عن إدراك العمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور، وهذا ثابت منذ تأسيس الدولة العالمية ، فضلاً عن المجتمعات المعصومة .إذاً فليس لنا أن نعرف عن المجتمعات المعصومة شيئاً مفصلاً.

وما يمكن لنا الآن تصوره ولإثباته بالقواعد العامة ، من الأسس لتلك الفترة . ما يلي :

الأساس الأول : تربية العالم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي أو العدل الكامل الذي يقوم عليه نظام المهدي (ع) في دولته العالمية .

ويعطي من ذلك لكل فرد ولكل شعب ما يحتاجه من اساليب التثقيف ومقداره ، بشكل تدريجي وعلى مراحل . وكلما طويت مرحلة ، استحق الفرد أو الجماعة مرحلة جديدة من القافة .

فالشعوب غير المسلمة ، سوف تدعى إلى الإسلام . وسوف  يعتنقونه باقتناع وسهولة ، نتيجة لأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك . وكل من اسلم من جديد أو هو مسلم سلفاً سوف يربى على الثقافى الإسلامية العامة الضروية لوجود الطاعة والإبتعاد عن المعصية . إن لم  يكن قد نال ذلك نتيجة للتخطيط الإلهي السابق .

وكل من تربى إلى هذه الدرجة ، فإنه يعطي الثقافة التي تؤهله إستيعاب الأفكار  والمفاهيم والقوانين الجديدة التي تعلن في ذلك العهد . طبقاً للمصالح الموجودة يومئذ.

ثم يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً ، ويأخذ كل فرد من البشر من ذلك بقدر قابلياته وجهوده أيضاً.

ولئن كانت المراحل الأولى والاسس الرئيسية من هذا التثقيف ، سينجزها الإمام المهدي (ع) بسهولة وسرعة، على ما سوف نسمع في هذا التاريخ إلا أن المراحل المتأخرة التي تعتبر تفريعاً وتطبيقاً للأسس وسوف تكون تدريجية وبطيئة ، طبقاً تربية كل أمة .

الأساس الثاني : تربية البشرية من حيث الإخلاص وقوة الإرادة تجاه المسؤوليات الجديدة في دولة العدل.

ويكون الأسلوب العام في ذلك مشابهاً في الفكرة للأسلوب الذي كان متخذاً في التخطيط الأول .وهو مرور الفرد بمصاعب وعقبات تجاه العدل ، ليرى موقفه منها ورد فعله تجاهها  ، فإن وقف موقفاً إسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص وإلا كان فاشلاً .

 

صفحة (104) 

 

لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط الجديد ، فإننا قلنا في التخطيط الأول أن ظروف الظلم والإنحراف كافية في التمحيص ، من حيث رد الفعل الإسلامي الصحيح من الفرد تجاهها .واما التخطيط الثاني . فسوف لن يكون لعصور الظلم وظروف الفساد اي  أثر وإنما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليات التي يفرضها التمسك بالعدل الكامل وتطبيقه ، والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين ومع النظام القائم ... تلك العلاقات التي يتوقع من الفرد خلالها رد فعل إسلامي عادل كامل .

وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابلياته وثقافته ، لأنه يتناسب دائماً مع ارتفاع القافة تناسباً طردياً مطرداً ... إذ يقبح على الله عز وجل أن يوفر للفرد امتحاناً وتمحيصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين، فإن  ذلك خلاف العدل الإلهي ، وإنما يكون التمحيص على مقدار الثقافة والقابلية دائماً ، حتى ما إذا وصلت الثقافة قمة عالية . كان التمحيص في غاية الدقة والصعوبة ، وكان النجاح المتوقع منها نجاحاً مناسباً لتلك المرتبة ، والفشل الصادر فيها مسجلاً بأدق الموازين وبأهون العثرات .

وقد وردت في أخبار المصادر الخاصة ، نماذج التمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في الفترة الأولى من عهده ، تجاه الأمة عامة وتجاه وتجاه أصحابه الخاصين ممن نجحوا في تمحيص التخطيط الأول – خاصة . على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي .

وقد يخطر في الذهن :انه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي الجديد ، وإنما كانت الحاجة في التخطيط الابق إلى التمحيص ، لإيجاد العدد الكافي من أفراد الجيس الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع) .وقد أنجز هذا الجيش عمله وانتفت الحاجة إلى مثله ،فلماذا يستمر التمحيص ساري المفعول  في البشر .وجواب ذلك : أن ناموس الله في خلقه هو تربيتهم عن طريق التمحيص .كما دل عليه  الكتاب الكريم في عدد من آياته ،والسنة الشريفة ، منها ، قوله تعالى :"ما كان الله ليذر المؤمين على ما أنت عليه ،حتى يميز الخبيث من الطيب"(1)


صفحة (105)
   
ــــــــــــــــــ

(1) آل عمران : 3/179.