|
||
|
والإستدلال يختلف – بطبيعة الحال – بإختلاف النتائج التي نريد التوصل إليها. وهي مما يمكن تقسيمها بإنقسامات ثلاثة ، لابد من التعرف عليها وما هو محل الحاجة ومنطلق البحث منها … لكي نختار ما يناسبها من الإستدلالات . الإنقسام الأول: التقسيم من حيث اتجاه الفكرة المهدوية، أعني تحديد المصلح المنتظر في نظر الفرد . فإن الإتجاهات هنا ذات ثلاثة مسارات رئيسية : المسار الأول: المصلح المنتظر الذي يؤمن به غير المسلمين، على اختلاف بينهم في تشخيصه وصفاته، كالمسيحيين واليهود والبراهمة وغيرهم . المسار الثاني : المصلح المنتظر الذي يؤمن به المسلمون غيرالإماميين عادة ، وهو رجل يلقب بالمهدي ، يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً. المسار الثالث: المصلح المنتظر للمسلمين الامامين خاصة، وهو المهدي الغائب محمد بن الحسين بن علي عليهم السلام الذي يظهر فيملاء الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وهذه المسارات في جوهرها واحدة ، تشير إلى مفهوم واحد مندرج في التخطيط الإلهي العام ، بشرت به الأديان وأكد عليه الإسلام . وإنما حصل الإختلاف فيه نتيجة لظروف معينة تمت إلى التربية الفكرية للبشرية بصلة ،كما سبق أن حملنا عنه فكرة في التاريخ السابق (1) وسنعرف تفاصيله في الكتاب القادم إلا أننا على أي حال ، ينبغي أن ننطلق في البرهان على حوادث المستقبل من أسس مسلمة ، لهذه المسارات الثلاث ليكون الكلام مقبولاً مسلم الصحة لديهل جهد الإمكان . ومعه ، فمن المتعذر إلى حد كبير التعرف على أسس مشتركة بالنسبة إلى المسار الأول - بتعبير آخر – مشتركة بين المسارات الثلاثة كلها … مما يعود إلى مفهوم المهدوية العام الذي تتسالم عليه الأديان . وذلك لعدم تسالمها – في حدود المقدار المعروف لدى أهلها من القواعد والأسس– على أمور مشتركة يمكن الإنطلاق منها على حقيقة معينة بهذا الصدد. ومعه يكون البحث عن تفاصيل اليوم الموعود، والأعمال التي سيقوم بها القائد النتظر متعذراً. وإنما غاية ما يمكن التعرف عليه والتسالم على صحته هو تطبيق للعدل على وجه الأرض على الإجمال.
واما الإستدلال على التفاصيل من خلال المسارين الثاني والثالث ، ففي الإمكان الحصول على الكثير من الأسس المشتركة النافعة بهذا الصدد . وسيكون المنطلق الأساسي المشترك هو ما نطق به القرآن الكريم من الوعد بيوم التطبيق الإسلامي العادل .ومن الخصائص الكبرى التي يتصف بها ذلك اليوم على ما ستسمع كما سينطلق الإستدلال مما تسالمت عليه أخبار الفريقين من الحقائق . أما ما استقل به كل فريق من الأخبار فسيكون لنا منه موقف خاص ، سنذكره . وينبغي الإلماع إلى أن الأخبار الأمامية ، قد تكفلت بنقل الحوادث للفترة الزمنية التي نؤرخ لها ، أكثر بكثير مما نقلته أخبار العامة . وخاصة فيما يعود إلى المهدي وأصحابه واعماله . وإن أكثرت الاخبار العامة الحديث عن المسيح والدجال وأشراط الساعة . وعلى أي حال ، فما يعود إلى مقدار الأخذ بالخبر أو رفضه سنذكره في الإنقسام الثالث إن شاء الله تعالى . الإنقسام الثاني : التقسيم من حيث مقدار الحودث التي يراد الحصول عليها واثباتها تاريخياً. وذلك: أننا كنا نتوخى الإطلاع على التاريخ التفصيلي لما بعد الظهور وذكر حودثه وأقوال معاصريه ، جملة وتفصيلاً ، كما لو كان مشاهداً محسوساً فعلاً . فهذا مما لا يمكن أساساً وينبغي الإعتراف سلفاً بتعذره وانقطاع السبيل إليه . بسبب ما سنسمعه فيما يلي من البحث من وجود الفجوات الواسعة في الروايات الناقلة للتاريخ المطلوب .
إلا أن مثل هذا التفصيل ، مما لا يهم التعرض له ، وليس هناك مصلحة في معرفته .
وإنما هو المستقبل وحده هو الكفيل بمعاصرته ، والله عز وجل هو القدير على
إيجاده والعليم به .. وإن عشت أراك الدهر عجباً. فإن أياً من المصالح الأربعة السابقة لا يتوقف تحققها على مثل هذا التفصيل بل يكفي فيها التعرف على الأفكار العامة والحوادث الرئيسية في ذلك العهد . وواردة في الأخبار بشكل يمكن إثباته تاريخياً ، دون ما هو أوسع من ذلك . ومن ثم لا ينبغي أن نتوقع من الباحث في تاريخ ما بعد الظهور ، زيادة من التفاصيل ، وإنما يقتصر بمقتضى مادة عمله وأسس مصادره على الافكار العامة والحوادث الرئيسية بطبيعة الحال . الإنقسام الثالث: التقسيم من حيث ما نتطلبه من الإثبات التاريخي ، باعتبار أننا تارة نتوخى حصول الإطمئنان والوثوق بوجود الحادثة المعينة ، وأخرى نكتفي بالإخبار الإعتيادي في إثباته . ومن هنا يكون لنا – بلحاظ ذلك – موقفان : الموقف الاول : اذا اردنا حصول الاطمئنان بوجود حادثة معينة مما ينقل حدوثها بعد الظهور... امكننا الاعتماد على المصادر التالية : المصدر الاول: القرآن الكريم بما فيه من ظواهر واضحة دالة على وصف العدل الاسلامي ، والخيرات التي تعود على البشرية عند تطبيق احكام الاسلام . المصدر الثاني: الروايات المتعددة الناقلة لحادثة معينة ، بحيث تكون إحداها قرينة على الأخرى ، ومصداقية لها بحيث تكون بمجموعها موجبة للثبوت التاريخي في اي حقل اعتيادي من حقول التاريخ .
المصدر الثالث: أخبار الفريقين إذا تسالمت على نقل حادثة معينة ، ولو كانت
بعدد قليل عند كل فريق ، فإنه يكفي لإثباتها. وذلك : لأن ظروف الرواية وأشخاص
الرواة ، مختلفين عند كل مذهب إسلامي ، مما يوجب الإختلاف الكبير في النقل فإذا
تسالموا على نقل مضمون بعينه ، كان هذا بعيداً عن الخطأ إلى حد كبير . المصدر الخامس : القواعد الإسلامية العامة المبرهن عليها في علوم مختلفة من حقول الإسلام ، كالعقائد و الفقه وغيره . فإنها إذا كانت ثابتة في محلها أمكن التو صل بها إلى بعض النتائج ومثاله : القاعدة التي تقتضي عدم جواز الحكم القضائي إلا بسماع البينة مع توفرها . فإنها تنفي الأخبارالدالة على أن المهدي (ع) يقضي بدون سماع البينة ، كما سيأتي إيضاحه . فإذ اجتمعت هذه المصادر الخمسة بنتائجها . كان تخطيطنا العام لهذا التاريخ قد كمل إذ بها نستطيع أن نثبت كل ما هو مهم ورئيسي في عهد الظهور . وتبقى جملة من التفاصيل يوكل اثباتها بشيء من هذه المصادر الخمسة . الموقف الثاني : إذا اكتفينا في الإثبات التاريخي الإعتيادي أو النقل المنفرد . وهو ما سنحتاج إليه بطيعة الحال(1) في سرد عدد من التفاصيل التي لا يمكن التوصل إلى معرفتها بدون ذلك . بالرغم من أن قيمة الأثبات لا تزيد على قيمة هذا الخبر المنفرد . ونحن بهذا الصدد ، نستطيع أن نقبل بعض المصادر ، وأن نرفض بعضاً : أما المصادر التي نقبلها ، فهي كما يلي : المصدر الأول : النقل المنفرد الذي تقوم القرائن القليلة على تأييده ... كالقرائن الحالية ، أو وجود روايتين فقط بمضمون واحد ، أو سندين لرواية واحدة . فإن أحدهما يكون قرينة على صحة الآخر . المصدر الثاني : النقل المنفرد الذي يقبل عادة في الفقه كمثبت للحكم الشرعي الإسلامي . وهو الخبر الذي يتصل بالمتحدث الأول عن طريق الثقات . فإنه يمكن اعتباره إثباتاً كافياً بلحاظ الموقف الثاني ، وإن تجرد عن القرينة على صدقه .
وأما المصادر التي نرفضها فهي كما يلي : المصدرالأول : الخبر الذي تنفيه القواعد الإسلامية العامة المبرهن عليها كما سبق مثاله . لا يختلف ذلك بين ما إذا كان خبراً منفرداً أو عدة أخبار. ولا يختلف في القاعدة بين أن يكون مستفاده من الكتاب أو السنة أو غيرهما . المصدرالثاني : الخبر الذي يوجد له معارض ينقل خلافه . وذلك فيما إذا وجد لدينا خبران ينقلان حادثة معينة بشكلين متغايرين أو ينقلان حادثتين متنافيتين ، ونحو ذلك . وفي مثل ذلك : إذا كان أحد طرفي المعارضة ، أعني أحد الخبرين ، راجحاً على صاحبه ، كما لو كان مستفيض النقل أو موفقاً مع القواعد العامة أو الشواهد الأخرى ، أخذنا به وطرحنا الآخر . وإن لم يكن هناك رجحان في أحد الطرفين سقط كلاهما عن إمكان الإثبات التاريخي . وقد فصلنا القول في ذلك التمهيد الذي عقدناه لـ " تاريخ الغيبة الصغرى " (1) فلا حاجة إلى الإطالة فيه . المصدر الثالث : المصدر الذي لا يوجد له مؤيد ولا مفند ، مما لم يروه الثقات ، ولا ارتباط له بالقواعد العامة بشكل مباشر ، لتدل على صحته أو نفيه . فإنه بطيعة الحال لا يصلح للإثبات التاريخي بهذا الصدد . ويرفض هذا المصدر إلى جنب المصدرين السابقين ، يمكن ملاحظة أن الروايات الناقلة لحوادث اليوم الموعود ، قد تخلصت مما يحتمل أن يتطرق إليها من دس أو يحزم حولها من وهم أو يكتنف حقلها من أساطير ، وبذلك تكون مصادرنا المعتمدة واضحة لا غبار عليها وصالحة لعرض الفكرة المهدوية تجاه العالم . الجهة الثالثة : في الصعوبات التي يواجهها هذا البحث . وهي صعوبات عديدة اقتضتها ظروفها ومصالحها الخاصة والعامة . على ما سنرى . ولا بد في المقام من أن نستثني ما ذكرناه من الصعوبات في تاريخ " الغيبة الصغرى " ، مما يعود إلى التاريخ شكل عام (2) وإلى الروايات الواردة في المهدي بشكل خاص(3) . فإنها صعوبات شاملة لهذا التاريخ ، وقد ذللناها هناك . ونقتصر هنا على الصعوبات التي يختص بها هذا التاريخ . وهي قد تتحد مع تلك الصعوبات أحياناً في العنوان ، إلا أنها من حيث الفكرة والأهمية تختلف عن سابقاتها ، كما لا يخفى على المقارن .
(1)انظر ص28 وما بعدها وص46 وما بعدها . (2)ص24 وما بعدها إلى عدة صفحات . (3)ص42 وما بعدها إلى عدة صفحات .
|
|