وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الفاسقون .وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما  بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه. فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق.

وقال تعالى:

"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ...الآية"(1)

حيث دلت هذه النصوص على انه عند الحكم العادل ،  ينبغي أن تنزل كل الكتب السماوية إلى حيز التطبيق وكل منها على من يؤمن بها. وقد وصف من يعصي حكم التوراة بالكافرين تارة وبالظالمين أخرى. ووصف من يعصي حكم الإنجيل بالفاسقين.

كل ما في الأمر ان الزمام الأعلى للحكم الإسلامي الذي أنزله الله تعالى في القرآن ، مهيمناً على الملل السابقة.

وإنما تمنى أمير المؤمنين (ع) إنجاز ذلك ،وإنما يقوم المهدي (ع) به، تطبيقاً لهذا التأكيد القرآني الذي سمعناه.

ويمكن فهم هذا التأكيد على أساس عدة أطروحات محتملة:

الأطروحة الأولى : أن يراد من تطبيق هذه الكتب تطبيق ما أمرت به من الدخول في الإسلام وبشرت به من وجود  نبي الإسلام .وسيكون هذا واضحاً في النسخ التي سوف يجيء بها المهدي(ع) من هذه الكتب.

وهذا هو الفهم التقليدي لهذه الآيات القرآنية ،وهو فهم محترم لولا أنه يخالف ظاهر بعض الآيات. فإن قوله تعالى " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين .إلى أن يقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الظالمون". ظاهر بأن المطلوب هو تطبيق هذه الأحكام نفسها التي عددتها الآية الكريمة .وقوله :"ولو  أنهم اقاموا التوراة والإنجيل ...لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" ظاهر بأن الرفاه الإجتماعي ناتج عن إقامة الأحكام التفصيلية للكتب نفسها . وقصرها على مجرد تبشيرها بالإسلام ، خلاف الظاهر لا يصار إليه بدليل.


صفحة (609)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) 5 / 66
 

الأطروحة الثانية: أن يراد من تطبيق هذه الكتب ، تطبيق أحكامها جملة وتفصيلاً وخاصة تلك الكتب التي يخرجها المهدي (ع) ويثبت أنها هي التوراة والإنجيل الواقعية.

إلا أن هذه الأطروحة غير محتملة ،لأن في هذه الكتب ناسخ ومنسوخ وكلها منسوخة بشريعة الإسلام، فالتوراة ناسخة  للشرائع السابقة عليها .والإنجيل ناسخ لأحكام التوراة والقرآن ناسخ لأحكام الإنجيل . ومعنى كونه منسوخاً أنه يجب العمل عليه في حكم الله عز وجل. بل يجب العمل فقط على الشريعة الأخيرة الناسخة لكل الشرائع السابقة والتي ليس بعدها ناسخ لها ، وهي الإسلام .ومعه لا معنى للعمل بالأحكام التفصيلية للشرائع السابقة.

وهذا النسخ لا يختلف فيه الحال بين المسلمين وبين اليهود والنصارى ، فليس من الصحيح أن أحكام التوراة مثلاً منسوخة بالنسبة إلى المسلمين ،ولكنها سارية المفعول على اليهود لأن الشرائع المتأخرة عن التوراة  إن لم تكن صحيحة ، كانت تلك الأحكام  منسحبة عن كل البشر، ولا معنى للتفريق.

على أن بعض هذه الكتب لا يحتوي على أحكام بالمرة أو يحتوي على شيء قليل ، لا يكفي لتطبيق العدل، كالزبور والإنجيل نفسه.

الأطروحة الثالثة : تطبيق هذه الكتب من زاوية عدد من الأحكام المهمة التي أعربت عنها، وليس المراد تطبيقها جملة وتفصيلاً.

فإن هناك من الأحكام ما كان ناشئاً من فهم معين للعدل والقانون بشكل عام ، حتى أصبح عدد من واضحاتها ضروري التطبيق في المجتمعات البشرية كلها على خط وجودها الطويل ، منذ أن استطاعت تطبيق الشرائع.

وحيث يكون فهم العدل والقانون في الشرائع السماوية عموماً واحداً ،أعني الشرائع بشكلها الواقعي ، فإنها صادرة من مصدر واحد حكيم لا نهائي في علمه وقدرته كانت الأحكام الأساسية مشتركة ما بين الشرائع، لا تختلف إلا في حدود اختلاف الحاجات التربوية التي تمر بها المجتمعات.

 

صفحة (610)
 

وإذ يكون هذا الفهم العام موجوداً أيضاً في دولة العدل العالمية، لكن بشكل معمق وموسع ، يكون من المنطقي جداً أن يكون تطبيق الأحكام الأساسية المشتركة الناشئة من ذلك الفهم مطلوباً أيضا ًفي هذه الدولة، مضافاً إلى الأحكام الأخرى المطبقة فيها.

وهذا التطبيق يكون عاماً على كل البشر وغير خاص بأهل الملل السابقة، بل تدخل هذه الأحكام في ضمن قوانين الدولة العالمية ،ويكون هو المراد من تطبيق هذه الكتب والحكم بمؤديات أحكامها ،فإن تطبيق أحكامها الأساسية والفهم العام الذي تقوم عليه ، يعتبر تطبيقاً لها ، مضافاً إلى تطبيق تبشيراتها بالإسلام ، واليوم الموعود ، يوم العدل العالمي.

وهذه الاطروحة صحيحة ، بمعنى أنها منسجمة مع  سائر النصوص، ولا دليل على بطلانها ، في تعين القول بصحتها ، مع بطلان الأطروحتين السابقتين.

ولا ينافي صحة هذه الأطروحة، أن نلتزم بصحة الأطروحة الآتية لو رأينا الدليل عليها تاماً ،فإنهما أطروحتان غير متنافيين.

الأطروحة الرابعة : أن يكون المراد من تطبيق ؟ التوراة والإنجيل تطبيقهما على أهل الملل المؤمنين بهما دون غيرهم.

لكن لا بمعنى التفريق بينهم وبين غيرهم بشكل كامل ، الأمر الذي نفيناه فيما سبق ، بحيث يكون الشامل لهؤلاء خصوص أحكام هذه الكتب دون سائر قوانين شاملة للجميع ، ويختص هؤلاء بأحكام كتبهم ،ريثما يدخلون في الإسلام تدريجياً.

وفي كل مادة قانونية اختلف فيه قانون الدولة عن حكم الكتب ، كان الحاكم العادل مخيراً بين تطبيق قانونه أو قانونهم عليهم ، كما أفتى به الفقهاء المسلمون ايضاً ،واستفادوا ذلك من قوله تعالى:

" فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"(1)

يعني أحكم بينهم بحكم الإسلام أو أعرض عنهم ودعهم ليطبقوا أحكامهم الخاصة.

وهذا هو الأنسب مع نصوص الأخبار التي سمعنا بهذا الصدد ، حيث قالت : إن أحكام التوراة تطبق على أهل التوراة وأحكام الإنجيل تطبق على أهل الإنجيل.


صفحة (611)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) 5 /42
 

وعلى أي حال ، فقد تكون كلا الأطروحتين الثالثة والرابعة صادقتين ،ومعه لا تكون الأطروحة الثالثة منافية مع هذا الظهور الذي أشرنا إليه في الأخبار ،كما هو غير خفي .

هذا وسيأتي في الكتاب القادم ، ما يلقي ضوءاً إضافياً على فهم النصوص.

الناحية الرابعة: في وضع الجزية على اهل الكتاب .

صرحت عدد من الأخبار السابقة ، بأن السياسة العامة للدولة العامة للدولة العادلة مع أهل الكتاب، ما داموا لم يسلموا ،هي إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم ،كما كان عليه الحكم الإسلامي قبل الظهور وكما طبقه رسول الله (ص) ، وبقي عليه الحكم المسلم ردحاً طويلاً من الزمن .

كل ما في الأمر أن بعض الأخبار نسبت هذه السياسة إلى المسيح عيسى بن مريم (ع) وبعضها نسبته إلى المهدي (ع) وقد عرفنا أن هذا اختلاف شكلي يعود إلى عمل واحد وأهداف مشتركة يقوم بها هذان القائدان على السواء.

وهذا هو الظاهر من قوله: يضع الجزية. يعني يشرعها ويطبقها ، بعد ان كانت مرتفعة بعد انحسار الحكم الإسلامي قبل الظهور، وهذا هو المشهور في الأخبار كما سمعنا والموافق للقاعدة الإسلامية المعروفة الواضحة قبل الظهور.

غير أننا سمعنا في خبر منها تخيير المهدي (ع) لليهود والنصارى بين الأسلام والقتل ،كما يفعل بسائر المشركين والملحدين في العالم .وهو الرأي الذي مال إليه المجلسي في البحار(1) حيث نسمعه يقول :

وقوله " ويضع الجزية معناه أنه يضعها من أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام".

وهذا أمر محتمل في التصور على أي حال ، حيث يكون ذلك من التشريعات المهدوية الجديدة التي تختلف عن الأحكام السابقة. غير أنه مما لا يمكن الإلتزام به بعد ظهور الأخبار بتشريع الجزية وهي الأكثرعدداً بشكل زائد.

وعلى أي حال ، فالقضية منحصرة بما يبقى على دين اليهودية والنصرانية وهم عدد قليل يومئذ على كل حال، بعدما عرفنا من الفرص المتزايدة والتركيز الكبيرعلى نشر الدين الإسلامي في البشر أجمعين.


صفحة (612)
ـــــــــــــــــ  
 
(1) ج13 ص198