ثم يكشف المهدي عن مواريث الأنبياء بشكلها الواقعي ،كما خلفها الأنبياء أنفسهم في الأرض ،كل في منطقته. وهي تابوت آدم (ع) أي الصندوق الذي كان يحفظ فيه كتاباته الدينية وتشريعاته وعصر موسى(ع) والتوراة والزبور والإنجيل وسائر كتب الله،فيبدأ هو والمسيح (ع) بمناقشة أهل الأديان السماوية بهذه الكتب والمواريث.

فيدخلون في ألإسلام ،وأما المتبقي منهم ، فيقول الخبر أنهم يدخلون في ذمة الإسلام ويدفعون الجزية كما كان الحال في زمن رسول الله (ص) ، ريثما يتم بالتدريج دخولهم في الإسلام.

وعندئذ "تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد" ويعم الغنى أمة محمد (ص) وهم كل البشر "وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد" عند استتباب الدولة العالمية .

فهذا هو المضمون العام لهذه الاخبار ،واما التفاصيل فسنعرفها في الجهات الاتية.

الجهة الرابعة : في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم (ع) .

ونتكلم عن ذلك في عدة نواحي:

الناحية ألاولى : حين عبرت الأخبار السابقة بنزول عيسى (ع) ،فإنما تريد نزوله من السماء بعد أن رفعه الله تعالى إليه حين أراد اليهود قتله فشبه لهم وقتلوا غيره مكانه ... وهذا انطلاق من الفهم التقليدي للمسلمين عن ذلك وقد ورد في أخبار الفريقين ما يؤيده ويدل عليه.

ونحن لا نريد الدخول في إثبات ذلك الآن ،وحسبنا أن القرآن الكريم بعد ضم بعض آياته إلى بعض غير صريح في ذلك، وإنما غاية ما ينفعنا في المقام هو ان نلتفت إلى ان مجيء المسيح مع المهدي لا يعني صحة هذا الفهم بالتعيين بل يمكن رجوعه بقدرة الله تعالى مهما كانت خاتمة حياته السابقة و كما هو واضح. 

الناحية الثانية : في الحكمة من بقاء المسيح (ع) خلال هذه المدة الطويلة طبقاً للفهم التقليدي المشار إليه :

إن الحكمة من ذلك ، حسب ما تدركه عقولنا الآن ، تتمثل في عدة  أمور :

الأمر الأول : اختصاص هذا النبي(ع) بمميزات شخصية أساسية من دون سائر الأنبياء ، كولادته الإعجازية بدون الأب وإحيائه للموتى ورفعه إلى السماء . كما اختص موسى بالكلام مع الله عز وجل ومحادثته مدة عشرة ايام كاملة ، واختص محمد نبي الإسلام (ص) بالقرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة .ولا بد لكل نبي رئيسي من خصائص تميزه على أي حال.

 

صفحة (603)
 

الامر الثاني : البرهان على صحة الغيبة بالنسبة إلى المهدي (ع) ،  حيث يكون المسيح  أكبر عمراً منه مهما طالت الغيبة بعدة مئات من السنين ، هي الفرق بين عصر ولادة المسيح وعصر ولادة المهدي (ع) وهي حوالي التسعمائة عام .

وحيث اعترف الفكر التقليدي الإسلامي ببقاء المسيح حياً لم يمت ،إذاً ، ففي الإمكان تماماً بقاء من هو أصغر منه عمراً و إن لم يكن هو أولى بالبقاء منه.

وهذه تماماً هي الحكمة من بقاء الخضر (ع) حياً ، كما اعترف به الفكر التقليدي الإسلامي أيضاً ووردت به الأخبار من الفريقين. وورد في الأخبار الإشارة إلى هذه الحكمة بالذات لبقائه(1). فإن عمره يزيد على عمر المسيح والمهدي معاً باعتبار أسبق ولادة منهما . فإذا كان بالإمكان بقاء الإنسان خلال هذا الدهر الطويل، فبالأولى أن يبقى شخص آخر بمقدار أقل منه .ولئن كان المسيح يعيش في السماء ،فإن الخضر يعيش على الأرض تماماً كالمهدي (ع) وهو يزيد على عمره بأكثر من ألفي عام.

الأمرالثالث: تكامل المسيح (ع) خلال هذا العصر الطويل. من التكامل الذي سميناه بتكامل ما بعد العصمة. وقد برهنا التاريخ السابق(2) على ثبوته للمهدي (ع) من خلال عمره الطويل على الأرض ومعاشرته للأجيال الطويلة للبشرية.

فكذلك يمكن القول بالنسبة للمسيح في عمره الطويل في السماء ، في الملكوت الأعلى ،وما يشاهده من عظمة الله وحكمته وعدله في ذلك العالم  ، الأمر الذي يوجب له أكبر الكمال.

وسوف يستفيد المسيح من هذا التكامل العالي ، في تدبير المجتمع العالمي العادل ،تماماً كما يستفيد المهدي(ع) من تكامله العالي أيضاً .فانظر إلى هذه القيادة العالمية الرشيدة المكونة من هذين التكاملين العاليين.


صفحة (604)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) أخرج الصدوق في إكمال الدين ( نسخة مخطوطة) بسنده عن سدير الصيرفي عن أبي عبدالله الصادق (ع) في حديث طويل يقول فيه : وأما العبد الصالح  أعني الخضر ،فإن الله تبارك وتعالى ما طول عمره لنبوة قدرها له ولا لكتاب ينزل عليه ولا لشريعة ينسخ به الشريعة من كان قبله من الأنبياء ولا لإمامة يلزم عباده الإقتداء بها ،ولا لطاعة يفرضها له، بلى إن الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدر من عمر القائم في أيام غيبته ما قدر وعلم من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول ،طول عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك إلا لعلة الإستدلال به على عمر القائم ، ليقطع بذلك حجة المعاندين ،ولئلا يكون على  الناس حجة...الحديث

(2) تاريخ الغيبة الكبرى : ص 504 وما بعدها إلى عدة صفحات .

 

الناحية الثالثة : في الحكمة من مشاركة المسيح في الدولة العالمية العادلة ، يؤثر وجود المسيح (ع) في الدولة العالمية ،وبالتالي في التخطيط اللاحق للظهور ، في حدود ما نفهم الآن ، في عدة أمور:

الأمر الأول: إيمان اليهود والنصارى به ،وهم يمثلون ردحاً كبيراً من البشرية ،وذلك حين يثبت لهم بالحجة الواضحة أنه هو المسيح يسوع الناصري نفسه ،وأن الإنجيل والتوراة إنما هي هكذا وليست على شكلها الذي كان معهوداً ، وإن ملكوت الله الذي بشر به هو في حياته الأولى على الأرض قد تحقق فعلاً ، متمثلاً بدولة العدل العالمية.

ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور ،إلا ويؤمن به كما هو المستفاد من قوله تعالى :

" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته "(1)

فإن الإستثناء بعد النفي يفيد العموم .

الأمر الثاني: أنه نتيجة للأمر الأول سوف يتيسر الفتح العالمي بدون قتال ، بل نتيجة للإيمان بالحق وإذعان له، وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك مفصلاً ، وعرفنا أن الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من الجانب العسكري.

الأمر الثالث: تكفل المسيح عيسى بن مريم (ع) للقيادة في جانب أو عدة جوانب من الدولة العالمية ،وتحمله مسؤوليتها ، كما لو أصبح في مركز مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة ، أو تكفل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض ، أو الدولة العالمية.

الناحية الرابعة : إن المسيح ابن مريم (ع) وإن كان نبياً مرسلاً وليس الإمام المهدي (ع) كذلك ، غير أن القيادة العليا تبقى موكولة إلى المهدي (ع) .

وذلك لعدة وجوه نذكر بعضها.

الوجه الأول : إن الإمام المهدي (ع) هو الوريث الشرعي للأطروحة العادلة الكاملة عن نبي الإسلام (ص)، يروي عنه وعن قادة الإسلام الأوائل تفاصيلها وحل معضلاتها، وفهم ظواهرها وخفاياها. وبالتالي فقدمرّ الإمام المهدي (ع) بجو كاف للتعرف على هذه الأمور على يد آبائه(ع) وهو مما لم يحدث أن وفق له المسيح عيسى بن مريم (ع) .


صفحة (605)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) 4 / 159