المثبت الثاني : ذكرت عدداً من الأناجيل(1) بتبشير يسوع الناصري بطول عمر المسيح وبمجيئه في آخر الزمان، ووافقت على ذلك السنة الشريفة في الإسلام ،كما سمعنا من هذه الأخبار وغيرها ،حتى كاد أن يكون ذلك من واضح واضحات الديانتين المسيحية والإسلام .

وقد بشر هو بإسهاب ،كما نطقت بذلك الأناجيل، بقرب مجيء ملكوت الله الذي هو يوم العدل العالمي الموعود، وقد نفهم من ذلك أن الملكوت إنما ينزل إلى حيز التطبيق عند مجيئه في آخر الزمان ،ومعه يكون هو المطبق له.

المثبت الثالث: الخبر الذي سبق ان سمعناه أنه : لا مهدي إلا عيسى بن مريم .

فإنه متضمن لمضمون هذا الإحتمال بصراحة ،وأن المتكفل للإنقاذ العالمي الموعود ليس إلا هذا النبي (ع) ،وربما أشعرنا هذا الخبر بان النبي هو المسمى بالمهدي في اصطلاح الإسلام.

وأما شأن هذه المثبتات من الصحة فهو ما سنذكره بعد ذلك.


مثبتات الإحتمال الثاني
:

هو أن يكون المهدي الإسلامي هو المسيح ،ولا يوجد إلى جنبه أو بعده أو قبله شخص آخر مستحق لهذه الصفة ، بصفتها ممثلة للإنقاذ العالمي الموعود.

وإثبات ذلك ينطلق مما قلناه من أن المراد بالمسيح بالإصطلاح الديني :هو هذا المعنى ، فبعد أن يثبت بضرورة الدين الإسلامي أن مهمة الإنقاذ العالمي موكولة إلى المهدي الإسلامي وحده ، إذاً فسوف يكون – بكل وضوح – هو المسيح الموعود.

غير أن الصحيح هو عدم صحة كلا هذين الإحتمالين ، بمعنى عدم صحة الأطروحة التي ينطلقان منها ، وهي وحدة المسيح والمهدي .بل هما شخصان منفصلان ، يظهران معاً في آخر الزمان ، أعني عند البدء بالإنقاذ العالمي الموعود ويضطلعان معاً بإنجاز هذه المهمة بقيادة المهدي الإسلامي  وجهود المسيح عيسى بن مريم.

 

صفحة (597)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) انظر : متى : 28 / 29 16/ 19 و24/ 2 وغيرهما.

 

وبهذا الفهم نستطيع أن نناقش مثبتتات كلا الإحتمالين ،ونعرف المناشىء الحقيقية لها.

فالإنقاذ العالمي مهمة مجيدة واحدة ، لا معنى لتعددها ،  بعد البرهنة على عدم الحاجة إلى ذلك ، كما سوف ياتي في الباب الآتي في الكتاب الآتي ،والمنقذ العالمي واحد ،هو المهدي الإسلامي دون غيره .

وأما تسمية النبي عيسى (ع) بالمسيح بلا منازع ، فهو لا يدل على استقلاله بهذه المهمة لوجهين:

الوجه الأول: أن تسمية المسيح عيسى بن مريم (ع) بهذا اللقب ،لم يكن مستعملاً في حياته .بل كان يتخذ مدلولاً(1) عاماً،وإنما أكد على ذلك طلابه كتبة الأناجيل الأربعة ، إيحاء بأنه المنقذ المنتظر والمطبق لملكوت الله دون غيره.

وأما تلقيب القرآن الكريم به بهذا الوصف ،فهو  باعتبار الشهرة الموجودة في ذلك العصر به ، نتيجة لتركيز المسيحيين على ذلك طيلة عدة قرون.

إذاً فهذه الشهرة العالمية لعيسى أو يسوع (ع) ، بهذا اللقب ، ليس  له أي مدلول أكثر من إطلاقه على داود أو شاؤل الذي كان لمجرد مجاملتهما على ما يبدو ، بعد اليقين بان اياً منهما لم يكن هو المنقذ المنتظر .

الوجه الثاني : أنه يكفي – في حدود الفهم الذي عرضناه – لتلقيب عيسى (ع) بالمسيح جهوده الكبرى في بناء اليوم الموعود ،كما سنعرف .إلى حد يصدق من الناحية العلمية نسبة تطبيق العدل الكامل إليه ،وإن كان ذلك في الواقع بقيادة الإمام المهدي الإسلامي (ع) .

ولعل هذا هو الوجه الذي حدا بالقرآن الكريم إلى الإعتراف بهذه الشهرة لهذا النبي (ع) وعدم إلغائها أو تبديلها، على حين ألغاها بالنسبة إلى غيره كداود.

وبهذا يكون المثبت الأول للإحتمال الأول مندفعا.

وأما ما تسالمت عليه الديانتان من عوة المسيح  في آخر الزمان، فهو لا يدل بمجرده على استقلاله بتطبيق اليوم الموعود ، بل نحتمل – على الأقل ـ أنه لمجرد المشاركة فيه، لأجل نيل المصالح التي سنعرف طرفاً  منها في ما يأتي.


صفحة (598)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) انظر يوحنا : 7/27و43

 

وأما تبشيره بملكوت الله ،فهو تبشير باليوم الموعود نفسه، وإنما أكد عليه المسيح عيسى بن مريم باعتباره الحلقة الأخيرة من التشريعات السابقة على وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي ستكون مطبقة في ذلك اليوم.

وكل ما يتضمن هذا البشير والتأكيد ،هو أهمية ملكوت الله وتطبيق عدله الكامل ،ولا يعني باي حال استقلال المسيح بتطبيق العدل.

ولا تتضمن الأناجيل ولا القرآن الكريم أي إشارة إلى أن المسيح عيسى(ع) هو المطبق الكبر لذلك اليوم، وإنما نسب التطبيق إلى قائد معين أسمته الأناجيل بابن الإنسان ،وهو ليس عيسى أو يسوع على أي حال ،لأن الأناجيل تطلق على يسوع لقب ابن الله ...وابن الإنسان غير ابن الله ، فلا يكون ابن الإنسان إلا القائد الواقعي لليوم الموعود .ويوجد في كلام الأناجيل عدد من القرائن على ذلك، كما سيأتي في الكتاب الخاص بهذا الموضوع من الموسوعة.

وبهذا يكون المثبت الثاني للإحتمال الأول مندفعاً.

وأماالمثبت الثالث : وهو الخبر الوارد بهذا الصدد ،فقد ناقشه ناقلوه نقاشاً حامياً .

قال ابن حجر في الصواعق(1): قال الحاكم : أوردته تعجباً لا محتجاً به .وقال البهيقي:

تفرد به محمد بن خالد .وقد قال الحاكم :أنه مجهول .واختلف عنه في إسناده ،وصرح النسائي بأنه منكر. وجزم غيره من الحفاظ بأن الأحاديث التي قبله أي الناصة على أن المهدي من ولد فاطمة أصح إسناداً .

كما أن هذا الخبر متضمن لبعض المداليل المعلومة الكذب .وهو قوله : لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدباراً ،ولا الناس إلا شحاً .فإنه بمدلوله ينفي وجود اليوم الموعود الذي ترتفع فيه الشدائد وتقبل الدنيا بعد إدبارها، ويزول الشح من الناس ويتبدل إلى التعاطف والأخوة على كل المستويات ، ومعه، فالدليل القطعي الدال على وجود اليوم الموعود ، ينفي مدلول هذا الخبر.

وإذا وجدت في الخبر فقرة فاسدة أمكن أن تكون فقراته الأخرى فاسدة فيكون ساقطاً عن الإثبات التاريخي .

وأما ما ورد في الخبر من أن الساعة لاتقوم إلا على شرار الناس ،فهو ماورد في عدة أخبار سنسمعها ونبحثها في الباب القادم.


صفحة (599)
ـــــــــــــــــ  
 

(1) ص98.