إن هذه الأطروحة تنطلق من آيات القرآن الكريم أيضاً، فإن مجموعة منها صريحة في إن إبليس ليس متسلطاً على كل البشر ولا نافذ الأمر فيهم جميعاً . بل هناك جماعة مؤمنة خارجة عن نطاقه، وإن الإنسان إذا وصل في إيمانه درجة معينة، فإنه يكون في منجاة كاملة من أضاليل إبليس وشبهاته.

قال الله تعالى:

" قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين"(1)   

وقال تعالى : " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين"(2)
وهذا النص ملحق بقوله:
" قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "(3)

وقال عز وجل :

"إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين "(4)

وقال عز وجل :

" إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم  يتوكلون ، إنما سلطانه على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون"(5)

إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة في أن مستوى معين من الإيمان يكون دافعاً لسلطان إبليس وإغوائه، باعتراف إبليس نفسه ، كما دلت عليه الآيتان الأوليان ،ويقول الله عز وجل في الآيتين الأخيرتين.

 

صفحة (577)
ـــــــــــــــــ

(1) 15 / 39 _ 40.  (2) 38 / 82 _ 83.

(3) 15 / 42.         (4) 16/99-100.

 

وهذا المستوى من الإيمان يوجده المهدي (ع) في البشرية خلال حياته ،ومن ثم يكون هو القاتل لإبليس مباشرة بسيفه المعنوي .ولا أقل من انه يضع المنهج العام لتربية البشرية على الخط الطويل لكي تصل إلى عصر(المجتمع المعصوم) وعنئذ يكون مقتل إبليس في نفوس البشر أكيداً وواضحاً ،لوجود التنافي الأساسي  والأكيد بين العصمة والمعصية.

وسيكون هذا المجتمع آخر نهاية محتملة له ، نعلم من خلاله بموت إبليس أو انفصاله عن البشرية نهائياً . لأنه إما أن يموت يومئذ ، أو يموت في حياة المهدي (ع) فيكون عند حصول المجتمع معصوماً ميت، أو يموت – كما قلنا – بحادث كوني يجعل حياته متعذرة ،وليس ذلك إلى صفة العصمة التي يتحلى بها المجتمع يومئذ ، فإنها تقتله أو تجعله منفصلاً عن البشرية بشكل نهائي ، طبقاً للأطروحة الثانية.

بقيت آية واحدة قد يخطر على البال منافاتها لما قلناه ،وهي قوله تعالى:

" قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ، لئن أخرتن إلى يوم القيامة ’لأحتنكن ذريته إلا قليلاً "(1)

فقد يبدو أنها دالة على بقاء الشيطان إلى يوم القيامة ،كما أنها دالة على أن اتباع الشيطان هم أغلب البشرية على طول الخط ،وإلى نهايتها ،وهذا ينافي مع وجود المجتمع المعصوم الباقي إلى نهاية البشرية.

والصحيح إنها لا تدل على كلا الأمرين ،وإنما تدل على أمور أخرى نذكر منها:

الأمر الأول: توقع الشيطان البقاء إلى يوم القيامة ،وهو توقع لم يكن يلق قبولاً من قبل الله عز وجل، كماعرفنا في قوله تعالى " إلى يوم الوقت المعلوم " .
الأمر الثاني : أن الشيطان لو بقي إلى نهاية البشرية فإن أتباعه سيكونون هم الأغلب من البشر. وهذا صحيح، إلا أن بقاءه سوف لن يحدث ،وهذه الآية غير دالة عليه ،لأنه يقول : لئن أخرتني إلى يوم القيامة ، لا أنك ستؤخرني فعلاً.

الأمرالثالث: إن الشيطان مادام موجوداً ،فإن أغلب البشر من اتباعه ،وهذا صحيح ، وسيبقى موجوداً إلى" يوم الوقت المعلوم" ،وعندئذ تنتهي حياته فيسود الصلاح والعدل الكامل ربوع البشرية.


صفحة (578)
ـــــــــــــــــ

(1) 17 / 62

 

وهذا يصلح برهاناً على نقطتين ، نضمهما إلى استنتاجاتنا السابقة :

النقطة الأولى : إن الشيطان مادام موجوداً في الواقع، فإنه متسلط على البشرية ،ولا يعقل انفكاكه عن ذلك إلا بموته .وهذا يبرهن على عدم صحة الأطروحة الرمزية .بل يمكن أنما الخلاص منه بقتله الحقيقي فقط .

النقطة الثانية : أن تطبيق العدل الكامل متوقف على قتل الشيطان ، لأنه يتوقف على شيوع الإيمان بين البشر، وهذا لا يكون في حياة إبليس، إذاً فلا بد من قتله من أجل ذلك، فيكون قتله خطوة أولى لصلاح البشرية وتطبيق العدل الكامل فيها، ومن هنا يمكننا أن نفهم من الوقت المعلوم الذي هو نهاية عمر إبليس يوم قتل المهدي (ع) إياه ،فإنه لا بد له أن يقتله من أجل فسح المجال لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة ،وإنجاح تخطيط التكامل في عصر ما بعد الظهور.

ولا ينبغي أن نتحدث عن إبليس أكثر من ذلك.

الجهة الرابعة : الحج في عصر المهدي(ع).

أنه بعد العلم أنه (ع) سوف يعيده إلى احكامه الواقعية التي كان عليها في عصر نبي الإسلام (ص) ،كما يفعل في كل مناحي الحياة ،وقد يضيف إليه أحكاماً أخرى ، في جملة ما يضيف من أحكام ...بعد هذا لا يبقى ما يمكن ذكره غير نقطتين.

النقطة الأولى: أنه (ع) – كما سمعنا في ما سبق-  سيقوم بتقليص حجم المسجد الحرام وإرجاعه إلى أسسه التي كان عليها في صدر الإسلام ،وهي الأسس التي بناها إبراهيم النبي(ع) .وبذلك لاتبقى ربع المسافة التي عليها ، المسجد في عصرنا الحاضر.

وخاصة بعد التوسعات الضخمة التي أدخلت عليه أخيراً.

النقطة الثانية : إن ضيق المسجد لا يعني قلة الحجاج ، بل إن الحجاج سيتكاثرون بشكل هائل من كل العالم البشري ، حين يعم الإيمانوجه الكرة الأرضية .وسيكون حجهم مخلصاً إطاعة للوجوب أو الإستحباب الشرعيين لا للتجارة ولا للنزهة ، كما كان عليه الناس قبل الظهور.

ومن هنا توجد مشكلة مهمة ، هي ضيق المسجد بالطائفين ضيقاً شديداً ،وسيواجه المهدي (ع) هذه المشكلة  بعدة أحكام تقوم بتذليلها ...أشارت الأخبار إلى اثنين منها:

الأول : جواز الطواف خلف مقام إبراهيم ، الأمر الذي كان مختلفاً فيه بين علماء المسلمين قبل الظهور، فإننا سمعنا في خبر سابق أنه يعيد مقام إبراهيم إلى موضعه الطبيعي ملتصقاً بالبيت أعني الكعبة المشرفة ، وقد دلت القرائن على صحة هذا الخبر، على ما قلنا ، ومعه يتعين أن يكون الطواف خلف المقام ،ولاتحديد له بعد ذلك إلاجدار المسجد  نفسه.

 

صفحة (579)