المبرر الثاني : تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع في المرافعات القضائية ،فحين يعلم الإمام المهدي (ع) أن  القواعد القضائية ستوصل القضية إلى الواقع لا
يكون لديه مانع من استعمالها ،وحين يعلم مخالفتها للواقع فإنه سيهملها ويتجه في حكمه نحو الواقع مباشرة .وقد قلنا في الفصل السابق أن الحاكم العادل مخيربين الأسلوبين باستمرار.

ومن هنا كان هذا الأسلوب معتاداً له ، لا بمعنى أنه يتخذه في كل القضايا على الإطلاق، بل بمعنى أنه يكثر من اتخاذه ، وذلك في موارد مخالفة القواعد العامة للواقع، ومن هنا يمكن القول :بأن المهدي (ع) يجمع ما بين قضاء داود(ع) وقضاء محمد (ص) . وحيث نعرف أن قضاء محمد (ص) أعني بالقضاء بالبية واليمين غالبي المطابقة للواقع ، وقليل المخالفة له، نعرف أن المهدي (ع) سيتخذ قضاء محمد (ص) في الأغلب وقضاء داود في الأقل .ولكنه (ع) سيصل إلى الواقع على كل تقدير.

ولا حاجة إلى التوسع في هذا المبرر أكثر من ذلك.

المبرر الثالث : تعويد المجتمع على الوصول الى الواقع ، في كل مصالح العامة ، وليس في القضاء فقط . فان القضاء بالرغم من اهميته ليس هو اهم مرافق الدولة واعمق مستوياتها ، فاذا كان الجانب الاضعف محتاجا الى الوصول الى الواقع ، فكيف بالجانب او الجوانب المهمة والعليا في الدولة والمجتمع .

والمنطلق الاساسي لهذا المبرر ، وهو أن الحكم العادل المطلق ، الذي يحصل فيه الإنسجام المطلق بين البشر أجمعين ، لا يمكن أن يتحقق إلا بعد التشخيص الحقيقي لكل الوقائع والحوادث ، والرؤية الواضحة لكل الظواهر والتحركات ،وأي ضعف في التشخيص أو جهل في الرؤية ، يؤدي إلى تضعضع العدالة في الحكم الوارد في الواقعة. وإذا  كثر هذا الضعف كثر هذا التضعضع ، ومن ثم  قد يودي بعدالة النظام كله.

ولا نريد بالتشخيص الحقيقي والرؤية الواضحة، إلا ملاحظة كل واقعة وحادثة على واقعها من دون لبس وغموض .إذاً فتطبيق العدل الكامل المطلق ، متوقف على الوصول إلى الواقع دائماً ، أعني في المصالح العامة – وقد يصل بعد التربية البشرية المستمرة حتى إلى الوقائع الشخصية الخاصة.

 

صفحة (574)
 

وهذا هو أحد الفروق بين داود(ع) والمهدي (ع) حيث وقع هذا القضاء من داود (ع) مرجوحاً كما عرفنا مستحقاً للإستغفار والإنابة ، بينما سوف يكون راجحاً من المهدي (ع) ومطابقاً للمصالح العامة في دولته. لأن المجتمع في عصر داود لم يكن في مستوى الوصول إلى الواقع ، بل كانت القواعد القضائية العامة تربوية  بالنسبة إليه إلى الحد الكافي ...على حين سيصبح المجتمع في عصر الإمام المهدي (ع) محتاجاً إلى الوصول إلى الواقع في كل المصالح العامة.

ولا حاجة إلى التوسع في هذا المبرر الثالث أكثر من هذا ايضاً.

الجهة الثالثة : في مقتل إبليس .

وهو ما دل عليه بعض الروايات ، منها ما نقلناه فيما سبق.

الأطروحة الأولى : الأطروحة الصريحة (غير الرمزية) لهذا الحادث الطريف.

وتبدأ هذه الأطروحة من زاوية ظهور القرآن الكريم بأن ابليس مخلوق معين ذو شخصية محددة، وهو الذي  أصبح منذ عصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم (ع) مصدر الشر والخطايا لآدم وذريته .وقد دعا إبليس ربه في ذلك الحين أن يرزقه العمر الطويل ليقوم بمهمته خير قيام ...وقد أجابه إلى ذلك .ومن هنا كان أي كفر أو إنحراف أو عصيان في البشرية منسوباً إلى إبليس أو الشيطان.

غير أن إبليس دعا ربه أن يهبه العمر إلى نهاية البشرية (إلى يوم يبعثون) فاستجاب له قسماً من هذا الدعاء ورفض الآخر ، بأن أعطاه قسماً من العمر المطلوب....

" قال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "(1)

وهو يوم الظهور وتأسيس الدولة العالمية حيث يقوم الإمام المهدي بقتله ، وتبقى البشرية بدون شيطان، فتكون تربيتها أسهل وتكاملها أسرع ، وربما  تكون هذه السرعة أضعاف ما هي عليه في حياة إبليس.

فبينما كان إبليس ، أعني طاعته والإنحراف باتجاهه ، محكاً للتمحيص منذ أول البشرية إلى عهد الظهور، لما عرفناه من وجود اختلافات أساسية في الأسلوب والنتائج بين التخطيط  السابق والتخطيط اللاحق على الظهور.


صفحة (575)
ـــــــــــــــــ

(1) 38/ 80-81

 

وهذه الأطروحة وكذلك الثانية ، تصدق بغض النظر عن بعض المناقشات الجانبية في مضمون الخبر ، الذي سمعناه بهذ الخصوص ،والذي يطول بنا المقام في سردها.

غير أن أهم مناقشة تواجهها هذه الأطروحة ، بعد التسليم بأن ذاك الخبر وحده غير كاف في الإثبات التاريخي ... هي جهلنا بمقصود القرآن الكريم من (الوقت المعلوم).

فإن القرآن ظاهر فعلاً بأن الوقت المعلوم أقصر مدة وأقرب زماناً من (يوم يبعثون).

إلا أنه لم يحدد هذا الوقت المعلوم ...فلعل المراد به يوم موت إبليس نفسه ، فكأنه قال كإنك من المنظرين إلى حين موتك .ولعل المراد به يوم ظهور المهدي كما هو مبين في هذا الخبر. ولعل المراد به يوم وجود المجتمع المعصوم .كما سنسمع في الأطروحة التالية ، كما لعل المراد الإشارة إلى وجود حادث كوني معين يودي بحياة الشيطان ، أو يجعل حياة الشياطين متعذرة.

وحيث لا معين لأحد هذه الإحتمالات من ظاهر القرآن الكريم ،وهذا الخبر وحده غير كاف للإثبات .إذن فلا يمكن التأكد من صحة الطروحة الأولى.

الأطروحة الثانية : الأطروحة الزمنية وهي ان نفهم من مقتل إبليس مقتله في نفوس البشر ، بحيث أنه مهما كان في ذاته – لايبقى له أي اثر أو وجود عملي على سلوك البشر إطلاقاً ،وذلك حين تجتث الدولة الإسلامية  العالمية العادلة، عناصر السوء والفساد من الأرض وتبدلها إلى جو الخير والصلاح ، في نفوس وعقول الأفراد أجمعين فحينئذ لا يبقى لوجود إبليس أية قيمة من الناحية العملية ،وأما بقاؤه حياً في عالمه أوموته هناك، فهذا غير مهم بالنسبة إلينا.

وحيث كان وجود الخير والصلاح في البشرية كلها ناتجاً من جهود الإمام  المهدي (ع) وتعايمه وقوانينه ، كان نسبة مقتل إبليس إليه أمراً صحيحاً ،وإنما كان مقتله في مسجد الكوفة على ما نطق به الخبر- لأن هذا المسجد بصفته أحد المراكز المهمة في العاصمة العالمية الكوفة ، سيكون هو منطلق تعاليم المهدي (ع) ونشر هدايته على العالم ، ومن الواضح عندئذ كيف يتأسف الشيطان لذلك ويجزع .كما سمعنا من الخبر – ويكون مقتولا ًفي النفوس بسيف المهدي(ع) وسلاحه المعنوي.

 

صفحة (576)