|
||
|
وأوحى الله عز وجل إلى سليمان (ع) : أي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها. وكذلك جرت السنة بعد سليمان. وهو قول الله عز وجل :وكلاً آتينا حكماً وعلماً. فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز وجل. والمستفاد من هذا الخبر وغيره، أن اعتداء الغنم على الحقل ،إن كان بالنهار فلا ضمان على صاحب الغنم ، لأن صاحب العقل هو الذي يجب عليه حفظ حقله في النهار. فإذا اعتدت غنم غيره عليه كان هو مقصراً ،ولا يضمن له صاحب الغنم شيئاً .وأما اعتداء الغنم في الليل فهو مضمون على صاحب الغنم ، لأنه يجب عليه حفظ غنمه من الإعتداء على الآخرين أثناء الليل ، فإذا لم يمنعها كان مقصراً وعليه الضمان. وكان الإعتداء في القضية التي عرضت على داود وسليمان(ع) ، إعتداء ليلياً ، فكان صاحب الغنم ضامناً لما اتلفه غنمه .ولكن ماذا يجب أن يدفع صاحب الغنم إلى صاحب الحقل ؟ إن في ذلك ثلاث احتمالات : الإحتمال الأول : أنه تقدر قيمة التالف من الزرع ،ويأخذ صاحبه من النقود بقدر هذه القيمة .وهذا صحيح إلا أن النقود لم تكن موجودة في ذلك العهد ، بل كانت المبادلة كلها بين النس باعتبار العروض نفسه ، فكان هذا الإحتمال مما لا يمكن العمل به يومئذ. الإحتمال الثاني: أنه تقدر قيمة التالف في الحقل ، ويأخذ صاحبه بقدر قيمته من العروض مما يملكه صاحب الغنم. وأقرب شيء يأخذه صاحب الحقل من هو ما انتجته الغنم المعتدية نفسها من حليب وولد وغيره .وهذا هو الذي حكم به النبي سليمان ، طبقاً لتفهيم الله عز وجل ... كما يقول الخبر.
صفحة (571)
الإحتمال الثالث : إن صاحب الغنم يدفع إلى صاحب الحقل الغنم المعتدية نفسها ، أما – كلها ـ كما هو ظاهرالخبر ـ وأما بعضها بمقدار قيمة التالف .وهذا هو الذي حكم به داود (ع) ، طبقاً لأحكام الأنبياء السابقين ، كما يقول الخبر. وكان الحكم العادل ، المطابق مع المستوى التربوي للبشرية يومئذ ، هو ما قاله النبي سليمان (ع) . الجهة الثانية: في المبررات الكافيى لإتخاذ المهدي (ع) أساليب قضاء سليمان وداود(ع) . والمستفاد من مجموع الأخبار، أن اتخاذ المهدي (ع) لقضاء سليمان ، أمر مؤقت .شأنه في ذلك قضاء التي سمعنا أن المهدي (ع) يسير على طبق كل واحد منها مرة أو أكثر من أجل تمحيص الأمة، ولكن اتخاذ المهدي لقضاء داود أمر مستمر ومعتاد بالنسبة إليه ، فهل هذا صحيح وكيف يكون ذلك ؟هذا ما سنعرفه بعد قليل. وليس المراد بقضار داود (ع) حكمه في قضية الحقل التي حكم بها ولده سليمان (ع) .بل اسلوبه العام في أنه يقضي بدون أن يطلب من المدعي بينة على مدعاه. وينبغي أن يقع الحديث في نقطتين. النقطة الأولى : في المبررات الكافية لإتخاذ المهدي (ع) قضاء سليمان (ع) . يمكن أن نذكر لذلك مبررين: المبرر الأول : إن قضار سليمان (ع) مطابق للقواعد الإسلامية نفسها ،فإنه بعد أن يثبت اعتداء الغنم على حقل الغير ، يكون صاحب الغنم ضامناً لصاحب الحقل قيمة ما اتلفته الغنم من الزرع وهذا صحيح واضح القواعد الإسلامية ،وهو مما أخذه سليمان وداود (ع) مسلماً أيضاً، وإنما اختلفت الأحكام فيما يمثل هذا الضمان الذي يدفعه صاحب الغنم كما قلنا في الإحتمالات الثلاث السابقة. فبينما يبدو للفرد المعاصر لعصرالنقود والعملات الورقية ، أن الضمان يجب ان يكون ممثلاً بها ، لم يكن هذا واضحاً ولا مفهوماً للمجتمع المعاصر لسليمان وداود (ع) ، لإنعدام العملة عندهم. ومن الصحيح إسلامياً ان الضمان في العصر الحاضر، إنما يكون بالنقود والعملة بوجه عام ـ ولكن الصحيح إلى جانب ذلك أنه يمكن دفع العين أو العروض بدلها أحياناً ، كما لو اتفق الدائن والمدين على ذلك ، وكما لو أمر بذلك الحاكم الإسلامي الأعلى نفسه.
صفحة (572) إذاً، فالفرق بين حكم سليمان وحكم الإسلام فيما يمثل الضمان . فإذا حكم المهدي (ع) بحكم سليمان (ع) ، فقد أمر ضمناً بصفته حاكماً إسلامياً أعلى – بتحويل الضمان من النقد إلى العروض، فيكون هذا جائزاً وملزماً للمدين. واما التفريق بين الإعتداء في الليل والإعتداء في النهار ، فلا يكون في هذه المسألة منشأ للفرق بين حكم سليمان وحكم الإسلام فيها ، لأنه كان اعتداء ليلياً مضموناً في حكمه وهو مضمون في الإسلام أيضاً .نعم ، لو كان الإعتداء في النهار، لكان منشأ للفرق الحقيقي ، إلا أن المهدي (ع) سيحكم بالضمان كما حكم سليمان بالضمان. المبرر الثاني: أننا لو تنزلنا – جدلاً- عن المبرر الأول ، وفرضنا أن حكم سليمان (ع) غير صحيح إسلامياً ، فعندئذ يكفي في صحته بالنسبة إلى الإمام المهدي(ع) ما كفى بالنسبة إلى اتخاذه أساليب قضاء الأنبياء الآخرين كآدم ونوح ووقد أعطينا لذلك المبررات الكافية في الفصل السابق فراجع .هذا والمهدي (ع) أولى بالناس من أنفسهم وأموالهم، وله أن يعمل ماهو الأصلح على كل حال ، شأنه في ذلك شأن نبي الإسلام (ص) نفسه ، كما هو ثابت بضرورة الدين. النقطة الثانية : في المبررات الكافية لإتخاذ المهدي (ع) قضاء داود (ع). يمكن أن نقدم لذلك ثلاثة مبررات بحسب فهمنا المعاصر: المبررالأول : التمحيص والإمتحان ، الذي هو المبرر العام لإتخاذ المهدي أياً من أساليب قضاء الأنبياء السابقين ، على ماعرفنا ... إلى جانب مصالح أخرى عامة عرفناها. وهذا المبرر يكتسب إثباته التاريخي ، بشكل رئيسي ،ومن الظن بأن الإمام المهدي (ع) حين يحكم في قضية بحكم النبي داود (ع) سوف لن يصرح بأن هذا من ذاك ،ولن يوضح أنه حكم بعلمه مطابقاً للواقع وإن خالف القواعد القضائية العامة .ومن هنا يكون مثاراً للإحتجاج ،وهو محك التمحيص. غير أن هذا صحيح في العدد القليل من القضايا التي يتخذ فيها المهدي (ع) هذا الأسلوب القضائي ، إذ تكون صفته صفة اتخاذه لأساليب القضاء الأخرى ، مرة مرة ،وهي التمحيص .غير أن المستفاد من الروايات استمرار ديدن المهدي (ع) على ذلك في كثير من القضايا ، ومعه ، يكون اتخاذ هذا الأسلوب لأول مرة محكاً للتمحيص ، وحين يتكرر الأمر ويتضح السرفيه ، سيتخذ الموقف مبرراً آخر أعمق من ذلك.
صفحة (573) |
|