وأما الإحتمال الثاني : فهو المطلوب ، لأنه على تقدير صحته ، يتعين أن تكون كثرة المال في دولة المهدي نفسها.

وأما الإحتمال الثالث ، فهو – في واقعه- لا يتضمن مفهوماً مغايراً للإحتمال الثاني:

فإننا سنبرهن في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مفصلاً على ان دولة المهدي ونظامه سيبقى مستمراً إلى نهاية البشرية ، فكثرة المال لو لم تتحقق في حياة المهدي (ع) بل تحقق بعده ، طبقاً لهذا الإمتحان ، فهو قد تحقق في نظام المهدي ودولته العادلة نفسه، مهما أبطأ في الوجود .ولكن إذا صح أن يوجد المال بكثرة نتيجة للنظام العادل ، فأحر به أن يوجد في حياة الإمام المهدي نفسه بصفته القائد الأعظم والأجدر من قادة هذه الدولة على الإطلاق ، والمؤسس للنظام التكاملي والتربوي البعيد المدى فيها.

ومعه يتعين الإحتمال الثاني، وهو أن تكون كثرة المال التي أعربت عنها أي رواية من هذه الروايات وغيره، لا تكون بدايتها إلا في عصر وجود المهدي بشخصه في دولته العالمية ،وإن استمرت هذه الكثرة بعده قروناً من الزمن.

القرينة الثانية: أن تجعل الروايات التي تربط كثرة المال بظهور المهدي (ع) قرينة على أن المراد من الروايات الساكنة على ذلك هو ذلك أيضاً .وهذا فهم عرفي ولغوي صحيح ، ناشىء من حمل المطلق على المقيد،أو فهم المطلق على ضوء المقيد.

والروايات التي تربط كثرة المال وحصول الرفاه الإجتماعي بظهور المهدي على قسمين:

أحدهما : روايات المصادر الخاصة كلها ،مما سمعناه ومما لم نسمعه .

ثانيهما: الأغلب من روايات المصادر العامة، فإننا روينا في هذا الفصل منها اثني عشر نصاً .منها خمسة نصوص تسمي المهدي على التعيين .وثلاثة منها تصف المهدي بصفة لا تنطبق إلا عليه كقوله .فيبعث الله عزوجل رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .وقوله : يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ،ونحوها من الروايات التي لا يراد منها إلا المهدي (ع) بإجماع المسلمين.

ومنها: أربعة نصوص مهملة من هذه الجهة، هي روايتان عن البخاري وواحدة عن مسلم وواحدة عن الترمذي .وهي التي تقول – طبقاً للقاعدة اللغوية العامة — إن تلك الروايات الأكثر عدداً والأوضح صراحة تكون قرينة على ان المراد منها هو عصر الظهور للمهدي نفسه ليس غير.

 

صفحة (562)
 

وبوجود هاتين القرينتين يحصل المقصود :

هذا، ولكثرة المال سبب إيديولوجي نظري، هو ما يسمى بالمذهب الإقتصادي في اللغة الحديثة، هذا ما نحاول  الدخول فيه الآن .فقد اقتصرنا هنا على الآثار والنتائج الإقتصادية ، الموسعة الناتجة عن المذهب الإقتصادي المهدوي العادل ،وأما أن هذا المذهب ما هو وكيف هو ، فهذا ما سنفهم المقدار الممكن منه في الكتاب التالي من هذه الموسوعة مفصلاً ، إن شاء الله تعالى.

الجهة السابعة : في التأييد الإلهي لدولة المهدي (ع) .

وينبغي اولاً أن نقيم القرائن على صحة هذا التأييد عموماً ، بالشكل الذي سنوضحه ، ثم نتحدث ثانياً عن مظاهر هذا التأييد في الدولة العالمية .ومن هنا نتكلم في ناحيتين:

الناحية الأولى: في وجود التأييد الإلهي لجانب الحق والعدل عموماً ، أينما وجد ، في مختلف الأزمة والأمكنة.

ويمكن أن نلحظ ذلك في الأدلة الإسلامية على مختلف المستويات :

المستوى الأول : وهو الذي يعرب عنه مثل قوله تعالى:

يا أيها الناس إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.(1)

فإنه مادام الفرد والمجتمع معطياً نفسه لنصرة الله ماشياً قدماً في سبيل الله ، فالله تعالى يفيض عليه النصر وقوة الإرادة ويعطيه من النتائج ما لم يكن متوقعاً.

ومثل قوله تعالى:

 "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض ، أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقية الأمور" (2)

وإن من اوضح مصاديق هؤلاء المؤمنين الموصوفين في الآية هم المهدي وأصحابه ،وإن لم تكن الآية تشير إليهم بالذات.


صفحة (563)
ـــــــــــــــــ

(1) 47 / 7

(2) 22 / 40-41

 

ومثل قوله تعالى :

"والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم "(1)

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ان هناك مرتبة من الإخلاص والإيمان إذا وصلها الفرد في عمله في سبيل الله – اياً كان شكل العمل وأسلوبه – أصبح مستحقاً للتأييد الإلهي والعناية والرحمة من قبل رب العالمين .

وأثر التأييد الإلهي، هو زيادة النتائج على المقدمات ، بمعنى أن هذا العامل المعين لو لم يكن مؤيداً لأنتج نتائج معينة محدودة ، بحسب قوانين المجتمع العامة ، كأي عمل آخر.

لكن حين يصبح العمل مقروناً بالتأييد ، فإن نتائجه تكون أوسع مما يتوقع عادة من مثل هذا العمل .

ومن أمثلته المحسوسة في العصر الحاضر ، انتشار الدين الإسلامي في  العالم .فإنه بالرغم من قلة دعاته المبشرين إليه وقلة المدافعين عنه وضعفهم نجده محفوظاً متنامياً بارزاً بالعزة والفخر أمام الرأي العام العالمي ، يعتنقه في كل عام مئات الأفراد الجدد في إفريقيا خاصة وفي العالم عامة.

المستوى الثاني : وهو المفهوم من مثل قوله تعالى:

" بلى إن تصبروا وتتقوا  ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين .وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم . فينقلبوا خائبين"(2)

فمهما تزايد عنصر الصبر وعنصر التقوى في الأفراد العاملين ، كان استحقاق عملهم للتأييد الإلهي أكثر فأكثر. وليست هذه الآية وأمثالها خاصة بالنبي(ص) وأصحابه ،وإن نزلت لأول مرة فيهم .وبرهان عدم الإختصاص ينطلق من عدة وجوه نذكر منها اثنين مستفادين من الآية نفسها:

الوجه الأول : إن الآية أناطت الإمداد والتأييد بالصبر والتقوى ،ولم تنطه بكون القائد نبياً أو مرسلاً من الله عز وجل ، الأمر الذي يعطينا أن الصبر والتقوى يستتبعان التأييد أينما وجد.


صفحة (564)
ـــــــــــــــــ

(1) 47/ 17

(2) 3/ 125 _ 126