وإننا في عصرنا الحاضر لندرك أهمية هذا التوسيع وجسامة العمل المنتج له أكثر من أي وقت مضى.

ومن تشريعاته العمرانية أنه يمنع الأجنحة إلى الطرقات ، ويهدم الموجود منها.

ومن تشريعاته العمرانية أنه يمنع الأجنحة إلى الطرقات ، ويهدم الموجود منها. والجناح في اللغة هو الروشن أو الكوة(1)  فيكون المراد بها الشبابيك التي تطل من المنازل على الطرق، فتكشف ما في داخل المنزل ما لا يصح كشفه في الشريعة العادلة ، فيكون من الواجب إزالتها ، وإبدال سبب التهوية بشئ جديد.

وقد يفهم من الجناح أمر آخر ،وهو البروز الذي يجعل عادة في البناء إلى جانب الطريق أو الشارع ، أما عن طريق الأعمدة أو بدونها .وهذا أنسب باستعارة الجناح ذوقاً وإن لم ينص عليه لغة .والمفهوم تقليدياً أن   المهدي (ع) يحرم هذا النوع من البناء ...غير أنه ليس من معاني الجناح لغة.

ومن تشريعاته العمرانية – كما نص الخبر -: أنه يبطل أي يمنع الكنف والمآزيب إلى الطرقات .والكنف بضمتين جمع كنيف.وهو البالوعة ،والمراد بها مواسير المياه القذرة .

والمآزيب جمع ميزاب وهو معروف. وكلاهما مستعمل بكثرة في عصرنا الحاضر، وهما موجبان لإتساخ  الطرق وإزعاج المارة ،ومن هنا يقوم الإمام (ع) بمنعها .. ولابد لأهل البيوت من تصريف مياههم بأساليب أكثر نظافة وتهذيباً.

الجهة الخامسة : في أهمية التعدين في الدولة المهدوية .

نصت الخبار الواردة بطرق الفريقين :بأن الأرض تظهر معادنها وكنوزها على سطحها حتى يراها الناس ، وتلقي بأفلاذ أكبادها كأمثال الإسطوانات من الذهب والفضة.

وهذا يمكن فهمه على أساس إعجازي، بمعنى يفترض ان ظهور المعادن على سطح الأرض يكون عن طريق المعجزة ، تأييداً من الله تعالى للمهدي ودولته.

وهذا الفهم المحتمل ، على ما سوف ياتي .. إلا أنه ليس فهماً منحصراً ، بل يمكن تقديم فهم آخر لا يكون الفهم الإعجازي بالقبول منه على أقل تقدير.

وهو أن نفهم الشكل الطبيعي لظهور المعادن ،وهو استخراجها بالآلة ، عن طريق تخطيط معين واهتمام خاص واهتمام خاص من قبل الدولة ، حتى تتوفر المعادن بأيدي الكثيرين للقيام بها في الصناعات وإزجاء مختلف الحاجات.

 

صفحة (556)
ـــــــــــــــــ

(1) انظر اقرب الموارد .

 

ولا يخفانا في هذا الصدد ،أن تطبيق الحكم الإسلامي على المعادن يجعلها مملوكة للأفراد لا للدولة ، بخلاف القوانين الوضعية التي تعتبرها جميعاً ملكاً للدولة .كما أنه يجعلها منشرة بأيدي الآلاف لا بأيدي عدد قليل من الناس.

وذلك ، بان نفترض أن الدولة المهدوية هي التي توفر آلات الإستخراج الضخمة ، مع تطبيق الحكم الإسلامي القائل: أن كل من استخرج شيئاً من المعدن يجب عليه أن يدفع خمسه إلى الفقراء وهو يملك المقدار الباقي، فينتج أن آلاف العمال العاملين في المعادن سوف يملكون كميات ضخمة من المعدن المستخرج ، وملايين من الفقراء سوف تنسد حاجاتهم عن طريق دفع خمس المقدار المستخرج اليهم .

فاذا ضممنا الى ذلك الحكم الاسلامي القائل : بانه لا يجوز للمستخرج ان يزيد مقدار ما يستخرجه وما يملكه من المعدن ، على قوت سنته . عرفنا انه ليس من حق اي فرد من العاملين في المعدن ان يثرى على حساب الاخرين ، وانما بمجرد ان تصل ثروته الى حد معين يفي بحاجته السنوية له ولعياله بما يناسب حاله اجتماعيا، منعته الدولة عن الحصول على مقدار الزائد من المعدن ، فاما ان يعتزل العمل ويسمح لغيره بالاستخراج ، لكي يملك من المعدن بهذا المقدار ايضاً ، او ان يعمل ويكون الناتج للدولة مباشرة .

وعلى اي حال ، فالدولة تملك الكمية الفائضة من المعادن عن كميات العمال ، وهي كميات كبيرة ، قد تزيد على ما ملكه العمال جميعا بأضعاف كثيرة وهذه الكميات تستخدمها الدولة في صناعاتها وسد احتياجات العمل فيها.

ومن هنا تكون المعادن ، تحت الحكم العادل ، قد أفادت بطريق مباشر وغير مباشر ملايين الناس ، واغنت ملايين العوائل في العالم .

الجهة السادسة : في السياسة المالية للدولة المهدوية ، كما اشارت الاخبار واقتضتها القواعد الاسلامية العامة.

وأول ما يواجهنا في الاخبار المستفيضة من الفريقين ، هو ما نصت عليه من وفرة المال وكثرته بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ وان الافراد كلهم يكونون من الغنى المالي . بحيث قد يكون للرجل زكاة او صدقة ، فيبحث عن الفقير لكي يعطيها ، فلا يجد فيعرضها على الناس فيرفضون اخذها استغناء . وان الامام المهدي (ع) يعرض الاموال امام الناس ويعلن التوزيع المجاني ، لكي يحمل كل فرد منهم ما يستطيع حمله. الا ان الناس لا يرغبون به ولا يأخذون منه شيئاً ،غير واحد يأتي ويأخذ ثم يندم لأنه أصبح الوحيد الطامع بالمال، ثم يحاول إرجاعه فيرفض طلبه .

 

صفحة (557)
 

وكلا هاتين الصورتين المعروضتين في الأخبار ، صريحتان في شمول الغنى المالي الواسع لكل الناس في المجتمع ،وأن المال والذهب والفضة والأحجار الكريمة قد سقطت عن الرغبة الإجتماعية ،باعتبار توفرها كالماء والتراب.

هذا ، ولكن هذه الأخبار تواجه بعض الأسئلة يحسن عضها ومحاولة الجواب عليها، وسنذكر كل سؤال في ناحية مستقلة.
الناحية الأولى : ما سبب تكدس المال وكثرته في الدولة المهدوية ، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد.

وللجواب على ذلك عدة أطروحات محتملة لا بد من عرضها وتمحيصها.

الأطروحة الأولى : توفر المال عن طريق المعجزة ، ببركة الإمام (ع) ودعائه.

ولكن هذه الأطروحة لا تتم لعدة اعتراضات ، نذكر منها اثنين.

أولاً : إنها خلاف قانون المعجزات ، من حيث أنه مهما امكن توفر المال بالطريق الطبيعي واضح ، بعد الإطلاع على الأطروحتين التالتين.

ثانيا : ان السياق العام لهذه الأخبار التي تذكر تكدس المال وكثرته، يشير إلى عدالة النظام واستقامة الأمور إلى حد يتوفر المال بهذه الكثرة، ومن الواضح ان افتراض توفر المال عن طريق المعجزة ينافي هذا السياق ، لإمكان وجود المعجزة – مع اقتضاء المصلحة – في أشد الأنظمة ظلماً وفساداً . وبتعبير آخر : إن المال سوف يكون نتيجة للمعجزة لا للنظام العادل ، وهو خلاف ظاهر الأخبار . ومعه لا تكون هذه الأطروحة صحيحة.

الأطروحة الثانية : إن المال يتوفر لدى الدولة عن طريق ما تقوم به في الزراعة والصناعة والتعدين وغيرها من استثمارات . توجب توفر المال للدولة والفراد معاً.

وبهذه المشاريع يتوفر لدى الدولة المهدوية العالمية الإكتفاء الذاتي ، بل زيادة المنتجات على الحاجات من ناحية ، ويتوفر فيها زيادة على ذلك كمية ضخمة من النقد ليس لها منفذ ومصدر للصرف معين.


صفحة (558)