ومع أن هذا المسلك  الحياتي الذي يتخذه ، لا ينافي استعجال ظهوره (ع) لأمرين:

أحدهما: أن الفرد المؤمن يتمنى ظهور الإمام (ع) لأجل المصلحة العامة ،وهي تطبيق العدل في العالم كله ، وتنفيذ الهدف الرئيس من خلق البشرية حتى وإن أوجب ذلك اتخاذ الفرد مسلك الزهد والتقشف ، أو أوجب الإجهاز على مصالحه الشخصية.

ثانيهما: إن الفرد لو كان يتمنى ظهور الإمام (ع) ، من أجل مصالحه الشخصية لرفع ظلاماته وترفيه عيشه ، فهذا متوفر له على أي حال ، لما عرفناه من هذا المسلك خاص غير عام ،وسيكون الفرد الإعتيادي مرفهاً سعيداً طيلة حياة المهدي (ع) ، وما بعده ،ولن يكون هذا الفرد مسؤولاً عن اتخاذ ذلك المسلك لأنه لا يكون ممارساً للحكم في أي منطقة من الأرض.

ومعه يكون مؤدى الإستفهام الإستنكاري حين يقول: ما تستعجلون بخروج القائم؟ ....غامضاً مجهول القصد. وجواب ذلك اننا ينبغي أن نفهم من هم المخاطبون بقوله:ما تستعجلون لننطلق من ذلك إلى الجواب.

ولاشك أن الإمام أبا عبد الله الصادق (ع) كان يخاطب قواعده الشعبية بهذا لكلام ، تلك المجموعة التي كانت تعاني من الظلم الأموي والعباسي أشد العذاب . وكان الفرد منهم  ينتظر خروج القائم (ع) من أجل رفع الظلامات وتطبيق العدل ،ومن ثم من أجل الحصول على السعادة والرفاه .وهذه المجموعة تنقسم إلى قسمين رئيسين:

القسم الأول: خاصة الإمام الصادق (ع) وطلابه ، المرتفعو الدرجة في العلم والإيمان.

القسم الثاني: الشعب الإعتيادي الموالي للأئمة المعصومين (ع) .والفرد من كل القسمين يتمنى ظهور القائم المهدي بسرعة ... وخطاب الإمام الصادق واستنكاره لذلك يمكن ان يشملهما معا ، فيكون لكل قسم فكرته الخاصة في الجواب.

أما القسم الأول فمن الواضح أنه لو حصل التمني وظهر المهدي (ع) يومئذ – بغض النظر عن شرائط الظهور وعلاماته التي كان يجهلها الفرد منهم- ، فإن المهدي (ع) سوف يخص أفراد هذا القسم بالإهتمام ، ولن يجد غيرهم في التوزيع على مناطق العالم حكاماً وقضاة ، وإذا أصبحوا حاكمين كانوا مشمولين لوجوب مسلك التقشف كما قلنا.

ومن ثم لم يحصل السبب المهم في التمني لسرعة الظهور وهو الحصول على الحياة المرفهة السعيدة .فكان الإستفهام الإستنكاري عليهم من قبل الإمام الصادق (ع) في محله جداً. لإنطلاق جملة منهم من زاوية المصلحة الخاصة في هذا التمني ،كما يعرفه الإمام الصادق نفسه من أصحابه .

 

صفحة (550)
 

وأما القسم الثاني من الأفراد: فإن الفرد الإعتيادي يومئذ باعتبار بساطته في الإيمان  والعلم نسبياً ، وعدم مروره بعصور التمحيص الطويلة ، التي تصرمت بعد ذلك ، يتخيل نفسه كامل الإيمان عميق الفهم ،ويتوقع من المهدي (ع) – لو ظهر يومئذ- أن يقربه ويمجد به . ومن هنا نعود إلى نفس التسلسل الفكري الذي عرفناه في القسم الأول.

إن هذا الفرد الإعتيادي ، لو حصل ما يتمنى وظهر المهدي (ع) ، فإن أبعده واعتبره فرداً اعتيادياً من شعبه،  فسوف يحصل عبى الرفاه إلا أن توقعه القرب من المهدي (ع) سوف يتخلف ، وهي صدمة عنيفة بلا شك ، وأما إذا قربه المهدي (ع) إليه واعتبره خاصته ، فقد حصل توقعه من إمامه ، إلا أنه سيرسل هذا الفرد حاكماً في بعض أقاليم العالم ، على أحسن تقدير ،ومعه يكون مشمولاً لوجوب الزهد والتقشف ، ولن يحصل على مصلحته الخاصة بحال .ومعه يكون الإستفهام الإستنكاري من قبل الإمام الصادق (ع) في محله تماماً.

والغرض الرئيسي من هذا الإستفهام سيكون هو أن تمني الظهور، لا ينبغي أن يكون من زوايا المصلحة الخاصة أساساً ،وإنما يجب أن ينطلق من زاوية المصلحة العامة، التي هي تطبيق العدل العالمي وتنفيذ الغرض الإلهي ....وإلا كان من المتوقع تخلف هذه المصلحة الخاصة أساساً.

الجهة الثالثة : في السياسة الزراعية التي يتبعها الإمام المهدي (ع) في دولته.

نستطيع أن نحيط علماً ببعض نتائجها وأساليبها من الأخبار السابقة ، حيث نصت على ان الأرض تؤتي اكلها لا تدخر منه شيئاً ،وهو كناية عن أن إنبات الأرض للنبات سيكون إلى أكبر حد ممكن يتحمله وجه البسيطة "حتى تمشي المرأة بين العراق والشام لاتضع قدميها إلا على النبات، ومن يخفى عليه حال هذه الصحراء التي تتوسط العراق والأردن والشام ونجد ...إنها صحراء ضخمة موحشة وجافة، لكنها ستصبح يانعة بالأشجار والثمار في أقل مدة ممكنة.

وما هذا إلا مثال واحد من العالم كله ،وإنما نصت عليه الأخبار ، باعتبار قربه إلى أذهان المجتمع السامع لهذه النصوص في عصر صدورها ،وليس ذلك باعتبار الإنحصار.

فإذا دولة المهدي (ع) عالمية ، وجهوده وجهود المخلصين في دولته شاملة لكل العالم على حد سواء ، فمن الطبيعي أن نتصور ان هذه الصحراء ليست هي الصحراء الوحيدة التي ستصبح خضراء ،وإنما ستخضر كل الصحاري في العالم بما فيها الربع الخالي والصحراء الكبرى في شمال إفريقيا وغيرها.

 

صفحة (551)
 

وإذا كان هذا هو شأن الصحاري ، فما هو شأن الأراضي التي كانت خصبة منذ عهد ما قبل الظهور .وما هو مقدار إنتاجها وإسباغ النعمة منها .إن هذا لا يمكن لمفكر بشري سابق على الظهور أن يقدره.

وعلى أي حال، فما هو العنصر المسبب لهذا الإنقلاب الزراعي الشامل؟ نستطيع أن نوعز – بعد عنصر التساوق بين التشريع والتكوين الذي الذي سنتحدث في جهة قادمة من هذا الفصل – نستطيع أن نوعزه إلى الإخلاص الحقيقي في العمل.

فمن السخف أن يقال : إن البشرية متجهة نحو المجاعة ،وإن زيادة  النسل يؤدي حتماً إلى قلة الأرزاق في العالم ، إن ذلك إنما يتحقق ، حين يكون الإخلاص ضئيلاً والتشريع ظالماً ، كما هو الحال في عصر ما قبل الظهور، وأما حين توجد الدولة المخلصة والتشريع العادل والأيدي العاملة المجدة والعمل المنظم عالمياً، فسوف يمكنه أن يحفظ للبشرية أرزاقهم مهما تزايدت وتكاثرت ، بل يمكنها أن تزيد الإنتاج إلى أضعاف الدخل الفردي لكل البشر بشكل لا مثيل له في ما سبق من تاريخ.

وأما المنهج التفصيلي التشريعي والعملي الذي يتبعه المهدي (ع) في دولته لنيل هذه النتائج الزراعية الرائعة ، فالتعرف عليه موكول إلى وعي ما بعد الظهور ،وإنما المستطاع التعرف على بعض فقراته من خلال ما بين أيدينا من قواعد وأخبار .وهذا ما سنتوفر عليه في الكتاب القادم من هذه الموسوعة.

إن نفس الأخبار التي سمعناها ، تعطينا بعض الحقائق التي تفيدنا بهذا الصدد، فالإمام المهدي (ع) ، سيأمر بحفر نهر خلال الصحراء الواقعة بين كربلاء والنجف ، حتى ينزل الماء في النجف ، ويعمل على فوهته القناطير ، يعني الجسور والأرحاء _ وهو جمع أرحية وهي المطحنة القديمة للحب _ ومن هنا قال في الرواية: فكأني بالعجوز على راسها مكتل فيه بر، تأتي تلك الأرحاء فتطحنه بلا كري ، أي بدون أجرة .

فإذا علمنا أن ذلك ليس إلا مجرد مثال ، ذكر طبقاً للفهم القديم ، استطعنا أن نتصور مقدار الأنهر والقنوات ممدودة في الصحراء للري، ومقدار التجهيز الآلي الزراعي المباح التصرف فيه للناس مجاناً ، ليساعد على سرعة الإنتاج وضخامته ، وعلى سرعة التوزيع والتسويق.


 
صفحة (552)