المناقشة الثالثة : إن الإمام المهدي يقيم الحجة على صدقه لأول مرة ، عند ظهوره لخاصة أصحابه الذين يبايعونه في المسجد الحرام ويرافقونه إلى العراق .وهؤلاء هم الذين يفترض بهم أن يكفروا به بعد هذا الزمن المتطاول والجهاد المتواصل ... بعد أن أضحت الحجة على صدق المهدي (ع) معلنة على البشر أجمعين، وواضحة لكل فرد وضوح الشمس ،وقد  شارك هؤلاء  انفسهم في إعلانها وترسيخها في المجتمع ، على أوسع نطاق.

وإن أهم حجة على الإطلاق يمكن للمهدي (ع) يمكن أن يقيمها هو فتحه للعالم  كله وتطبيقه للعدل فيه .فإننا لا نعني بالمهدي إلا الشخص الذي يعمل هذا العمل ويؤسس هذه النتيجة الكبرى ، بإجماع علماء المسلمين، بل بإجماع أهل الأديان.

وإن أي تشكيك يمكن أن يرجف به المرجفون في المعجزات الوقتية التي يقيمها المهدي (ع) كحجة على صدقه ، كالذي قيل ضد بني الإسلام (ص) بأنه كاهن أو ساحر ، غير أن الفتح العالمي واستتباب الدولة العالمية ، دليل لا يمكن أن يرقى إليه شك.

وإن أهم من يعرف ذلك ويفهمه بعمق من البشر المعاصرين لذلك العهد ،هم هؤلاء الخاصة المخلصين الممحصون ، فكيف يمكن أن نتصور منهم أنهم يكفرون به ويرتدون عن الإيمان بمهدويته.

المناقشة الرابعة :إننا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) أن احتجاب الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الكبرى، مهما كان دقيقاً شاملاً إلا أن الفرد إذا وصل في تربيته وتمحيصه إلى درجة معينة عالية من الإيمان، فأصبح له من المخلصين الكاملين، كان له أن يرى الإمام ولا دليل على أنه (ع) يحتجب عن مثل هذا المستوى الرفيع من المؤمنين.

وهناك من الأخبار ما يدل على مرافقة المهدي (ع) لجماعة من الناس مع معرفتهم بحقيقة الغيبة الكبرى ،وأن عدداً من الناس ممن كانوا يشاهدونه خلال ذلك كانوا يعرفونه حين يصادفونه بعد ذلك.

إذاً ، فهؤلاء المخلصون المعاصرون للظهور ، كانوا يعرفون الإمام المهدي(ع) خلال غيبته ،وربما كان بعضهم متصلاً به ومعاشراً له، فمثل هؤلاء يكونون مطلعين على حقيقة المهدي(ع) منذ غيبته،وقد سمعنا غير بعيد، احتمال أن الإمام (ع) يخصهم خلال ذلك بالتعاليم التي تؤهلهم لتولي مسؤولياتهم الجسيمة بعد الظهور.


صفحة (526)
ـــــــــــــــــ

(1) انظر ص150 وما بعدها إلى عدة صفحات.

 

إذاً ، فهؤلاء الخاصة على يقين بأن هذا الشخص بعينه هو المهدي المنظر .منذ غيبته فضلاً عن عصر ظهوره .ومعه فمن غير المحتمل أن يخطرعلى بالهم التشكيك بمهدويته.

ومع وجود هذه المناقشات وغيرها ، يكمننا أن نطمئن تماماً على استقامة هؤلاء الخاصة خلال ممارستهم الحكم والقضاء في دولة العدل  العالمية . وخاصة بعد ان عرفنا أن أسلوب الإمام القائد (ع) ، هو تعاهدهم بالتوجيه والرعاية والإصلاح.

ومعه لا يكون مضمون هذا الخبر الدال على ارتدادهم ، قابلاً للإثبات التاريخي.

الجهة الاربعة : في تمحيص الإمام المهدي (ع) للأمة ككل.

والأمة الإسلامية تشكل يومئذ أكثرية البشر،إن لم يكن جميعها .والدولة الإسلامية  المهدوية مسيطرة على العالم كله بطبيعة الحال.

والفرد الإعتيادي فيها يواجه عدة مستويات من التمحيص ، بحسب ما يدركه الباحث على الظهور.

المستوى :التمحيص تجاه عواطف الفرد وغرائزه وشهواته.

فإن الإنسان خلال الحكم العادل ، لا يتحول عما خلق عليه من الميول والغرائز ،وما ركب فيه من الشهوات، بل يبقى انساناً بماله من عقل وفكر وغرائز وميول ،وقصارى ما يقدمه التشريع العادل ،هو أن ينظم له متطلبات هذه الجهات، بحيث يضمن له التوازن بينها أولاً ، والتكامل المستمر ثانياً.

كما ان قصارى ما تقدمه الدولة العادلة ، هو أن تفتح له فرص هذا التوازن والتكامل على مصراعيها، اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً وفكرياً.

وأما الأخذ بزمام المبادرة إلى التحكم في الغرائز المنطلقة وكبح جماحها ،وتطبيق مفاهيم الفضيلة والعدل عليها ،أو تطبقها على هذه المفاهيم ...فهو موكول إلى الفرد نفسه على طول الخط .بحسب منطق الدعوة الإلهية ، لا يختلف ما قبل الظهور عما بعده في ذلك.

إذا فالفرد يواجه هذه المسؤولية على طول الخط ،وهي تشكل تمحيصاً مهماً بالنسبة إليه ،حيث تقاس تصرفاته وردود فعله ، تجاه متطلبات عواطفه وشهواته المنحرفة !

فبمقدار ما يمكنه أن يطبق عليها المنهج العادل في التوازن واتلكامل ، يكون ناجحاً في التمحيص ،ومهما قصر في ذلك استطاعت شهواته السيطرة على سلوكه وتفكيره ،وأعاقت سيره نحو الكمال ، كان فاشلاً في التمحيص.

 

صفحة (527)
 

المستوى الثاني: المشاركة في تطبيق العدل الكامل .

فإن العدل الكامل يتوقف على تجاوب وتعاطف بين الدولة والأفراد من ناحية ،وبين الأفراد أنفسهم من ناحية أخرى ،وعلى إطاعة كاملة وتطبيق حقيقي للتشريع العادل ،على كل المستويات .لكي يكون لكل فرد في الدولة والمجتمع شرف المشاركة في إنجاح التجربة العادلة الكبرى ،وفي جعل البشرية جمعاء في طريق التكامل الحقيقي والسعادة الكاملة ، التي يهدف إليها تخطيط ما بعد الظهور.

وإن أي تقصير أو تخلف، مهما كان بسيطاً، سوف يكون عاملاً عكسياً هداماً في هذا التخطيط المقدس، وهذا الهدف العظيم ،ويعتبر انحرافاً مهماً وفشلاً ذريعاً في التمحيص .قال الله تعالى :

"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم .وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ،ومن كفر بعد ذلك ، فأؤلئك هم الفاسقون".(1)

إذا فالكفر والتمرد على متطلبات العدل بعد تنفيذ هذا الوعد وإقامة الدولة العالمية العادلة، أمر يمثل أقصى الخسة والإنحطاط.

والدولة ، بطبيعة الحال ، تساعد بكل اهتمام ، في إيجاد الظروف الملائمة لتطبيق هذه المسؤوليات ، على ما سنسمع في الفصل الآتي الخاص بأسلوب تربية الأمة .

وفي مثل ذلك ، يكون الأخذ بزمام المبادرة إلى الطاعة وتطبيق العدل ،من قبل الفرد سهلاً إلى حد كبير .ومن هنا تكون بوادر الإنحراف والتمرد على هذه المسؤوليات من أعظم الجرائم وأكبرها ،ولا يكون العقاب بالقتل عقاباً مجحفاً.

المستوى الثالث : التسليم بكل ما يقوم به الإمام المهدي (ع) من أفعال وأقوال ،والإعتقاد بكونه هو الحق الصحيح ،وعدم الإستماع إلى الإرجاف الذي قد يحصل حول ذلك ، مهما كان فعله (ع) ملفتاً للنظر وغير معروف المصلحة.

 

صفحة (528)
ـــــــــــــــــ

(1) النور / 55