|
||
|
وبهذا يتم الحديث عن المنشأ الثالث للتمحيص. المنشأ الرابع للتمحيص: اتخاذ الإمام المهدي موقفاً جدياً تجاه تصرفات أصحابه الذين وزعهم حكاماً على أقاليم العالم. فإنهم بعد توزيعهم هذا سيكونون محل عناية وتركيز ومراقبة من قبل القائد المهدي (ع) لكي يكونون جديين في تطبيق العدل صارمين في الحق مستمرين في الحفاظ على مستوى المسؤولية العليا التي أنيطت بهم ،وهي مسؤولية ليست سهلة بلهي مهددة بالزلل والفساد لأقل طمع أو جشع .كما هي مهددة بالإنحراف في التطبيق لأقل نسيان أو خطأ. ومن هنا ورد عن المهدي(ع) كونه " شديداً على العمال". أخرج السيوطي في الحاوي(1) وابن طاووس في الملاحم والفتن(2) وغيرهما ، عن نعيم بن حماد في كتابه الفتن بسنده عن طاوس قال: - بلفظ السيوطي- : علامة المهدي أن يكون شديداً على العمال جواداً بالمال رحيماً بالمساكين وبلفظ ابن طاوس : المهدي سمح بالمال ، شديد على العمال رحيم بالمساكين. والعامل في اصطلاح أرباب السياسة : الرئيس والوالي ومن تولى إيالة(3) فالعمال – في الحديث - هم ولاة المهدي في العالم . ولا يراد بالعامل من يعمل بيده أو في معمل بدليل قوله : رحيماً بالمساكين فإن العامل بهذا المعنى من المساكين وضعاف الحال ، فيكون المهدي رحيماً به لا شديداً عليه. وإنما شدته على عماله ،أعني الحكام الموزعين في أقاليم الأرض ،من أجل أهمية تطبيق العدل ،ومراقبتهم لئلا يحصل تسامح أو إنحراف فيهم .
(1) ج2 ص150 (2) ص137 (3) انظر القرب الموارد ، مادة :عمل.
وهذا ما يؤكده – ايضاً – الخبر الذي سمعناه في هذ الفصل عن البحار عن المفضلبن عمرو، حيث نستطيع أن نفهم منه هذا التسلسل الفكري: إن اصحاب الإمام (ع) ،خلال حكمهم على العالم ،سيمارسون نشاطهم الإعتيادي ،من خلال ما يعرفونه من أحكام وما يتوصلون إليه من أساليب وما يتلقونه من تعاليم وما يحتوون عليه من قابليات ويبقون على ذلك، برهة من الزمن لا تحددها الرواية. وهذه الممارسة هي في حقيقتها من أعظم التجارب والتمحيصات المتوجهة إليهم ، إلى حد من الممكن القول: بأنهم لم سبق لهم أن عاشوا مثل هذا التمحيص الكبير... بالرغم من مرورهم بالتمحيص السابق على الظهور. وبفترة الفتح العالمي ،واجتيازهم كل ذلك بنجاح منقطع النظير . وخلال هذه البرهة ،تبدأ – بالتدريج- نقاط ضعفهم بالظهور ،ويتجلى اختلاف قابلياتهم في الإدراة وتطبيق العدل بشكل واضح .إلى حد يصبح العدل العالمي ككل معرضاً للخطر ، لو استمر الوضع على ما هو عليه. فيأتي ذلك اليوم القريب الذي يجمعهم الإمام المهدي(ع) من أطراف العالم ،ويعمل لهم مؤتمراً عاماً، فيخرج لهم من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب ، عهد معهود من رسول الله (ص) – كما تقول الرواية- فيطلعهم عليه، والرواية لا تشير إلى مضمون هذا العهد لأن التصريح به فوق مستوى الذهنية العامة لعصر صدور النص. إلا أنه من المؤكد أنه سوف يكون مضاعفاً للمسؤولية عليهم مؤكداً لهم وجوب الإلتزام بالعدل بشكل دقيق لا تسامح فيه .وبذلك تصبح نقاط ضعفهم التي مارسوها خلال نشاطهم العالمي، واضحة للعيان. تقول الرواية: فيجفلون عنه اجفال النعم.... يهربون عنه ولا يقبلون بمضمون هذا العهد ،وبذلك يفشلون في هذا التمحيص فشلاً ذريعاً ، بالرغن من أنهم نجحوا في كل التمحصيات السابقة. وسيكون الفاشلون أكثر أصحابه خاصة ، إذ لا يبقى منهم إلا اثني عشر نفر منهم ، يتخذون جانب طاعة الإمام المهدي وإلإلتزام بعهوده وتعاليمه فيكون العصاة عليه ثلاثمائة شخص وواحد ،وهم الباقي بعد الطرح اثني عشر من ثلاثمئة وثلاثة عشر. وليتهم إذ يهربون منه ، يكتفون بترك المجتمع او الإنصراف إلى العبادة ،أو الأعمال الخيرية الصغيرة ، لكنهم يجولون في الأرض طلباً للناصرين لهم والمدافعين عنهم.
صفحة (523) ليكونوا جبهة معارضة ضد الإمام (ع) أو بما ينوون مناجزته القتال إذا استطاعوا. ولكنهم سيفشلون في مهمتهم فشلاً ذريعاً ، لأن عدل المهدي وهيبته وصحة عقيدته وقانونه .يكون قد سبقهم إلى كل القلوب والعقول ،فلم يبق في العالم أحد إلا تابع المهدي إيماناً أو خوفاً أو طمعاً ، تماماً كما نطقت به بعض الأخبار ، فيتفرق عنهم الناس ، بعد أن يعرفوا مقاصدهم المنحرفة ،ولا يستطيع هؤلاء أن يجدوا في البشرية مؤيداً ولا ناصراً. وتمضي خلال ذلك مدة ، يقررون في نهايتها الرجوع إلى المهدي للإعتذار منه وتخليص انفسهم من عقوبته. ولكن هيهات ولات حين مناص بعد الفشل الذريع ، إنهم الآن مستحقون للقتل في منطق الدولة المهدوية. ومن هنا سيواجههم الإمام القائد بكلام معين ، يأبى الحديث الشريف عن التصريح بمضمونه ، تكون نتيجته، أن هؤلاء الناس يكفرون بالمهدي يعني ينكرون مهدويته وصدقه .ولا بد أنه عندئذ يامر بقتلهم جميعاً. وإلى هنا تنتهي الحادثة التي يعرب عنها هذا الحديث ،وهو أمر محتمل تماماً ، بحسب ما أعطيناها من الفهم العام للدولة المهدوية وللتمحيصات العامة ، وخاصة تلك التي تكون في التخطيط اللاحق للظهور. وعلى أي حال فلن ينجو من الفشل في هذا التمحيص إلا اثني عشر فرداً ، يبدو أنهم يمثلون الحكومة المركزية في العالم ، أعني انهم كانوا يعملون إلى جانب الإمام المهدي نفسه ، وليسوا متفرقين في العالم. وذلك بمرجحين : المرجح الأول: أن فيهم الوزير حيث تقول الرواية : الوزير واحدعشر نقيباً. والوزير يعمل إلى جنب الملك أو الرئيس عادة ،وهو في الدولة القدية بمنزلة رئيس الوزراء في الدولة الحديثة ،كما عرفنا. المرجح الثاني: أن هؤلاء النفر القليل ـ أفضل في الإخلاص وقوة الإرادة ،أساسا من اؤلئك المرتدين العديدين ،بدليل نجاحهم وفشل اؤلئك. والنجاح لا ينتج إلا من عمق الإيمان. ومن الطبيعي أن نفترض أن المهدي من أول الأمر يختار حكومته المركزية من أفضل هؤلاء الثلاثمائة والثلاثة عشر، فيستبقي عنده اثني عشر منهم، ويفرق الباقي في البلدان ،فيكون هؤلاء الإثني عشر أفضل من الجميع ، فيتيسر لهم النجاح في هذا التمحيص.
صفحة (524) وهم باعتبار قربهم من قائدهم ومركزية وجودهم يكونون أكثر استيعاباً وفهماً لموقف المهدي وآرائه ،وللمصالح العالمية ككل، ومن هنا يكونون أقرب للنجاح في التمحيص من هذه الجهة . هذا ، ولكن هذه الرواية الدالة على هذا التمحيص لا تخلو من بعض المناقشات: المناقشة الأولى : إن هذا الحديث الشريف وحده غير كاف في الإثبات التاريخي ، بحسب الموازين التي اتبعناها في هذا البحث التاريخي. والقرائن العامة التي فهمناها وضممناها إليه ...وإن كانت مؤيدة لمضمونه ،إلا أنها في الحقيقة ، تؤيد إمكان وقوع ذلك ، لا أنها تؤيد إثبات الوقوع ، وفرق كبير ما بين هذين ألامرين. المناقشة الثانية : إننا لو غضضنا النظر عن الأسلوب الإعجازي الذي عرفناه أن ادعوة الإلهية لا تقوم عليه على طول الخط ... فإننا يمكن أن نقول: إن ارتداد هؤلاء لا يشكل نقصاً ذريعاً في المؤهلين لإدارة العالم . فإن كان هؤلاء الذين تمخض عنهم تاريخ البشرية في خطها الطويل ، لأجل نصرة الإمام المهدي طبقاً لتخطيط ما قبل الظهور ، إن كان هؤلاء لم يستطيعوا الإستقامة ولم تثبت أهليتهم الكاملة لممارسة الحكم .فمن أين يأتي الإمام بغيرهم في تلك العجالة ،ولما يمر بعد على البشرية زمان كاف للتربية والتكامل بحيث يكون الحكام الجدد افضل بدرجات كبيرة وواضحة من هؤلاء المخلصين والممحصين ، إن ذلك – بعد إسقاط الأسلوب الإعجازي عن النظر- أمر في غاية البعد. فإذا التفتنا إلى سياق الحديث ، نشعر بأنهم سوف لن يمارسوا الحكم في الدولة المهدوية طويلاً ، بل قد لا يعدو حكمهم عدة أشهر ،هذا ما تعضده القرائن ،فإن انكشاف نقاط ضعف تكفي فيه هذه المدة بشكل واضح، فالمدة كافية لفشل هؤلاء ، ولكنها غير كافية لإيجاد بديل أفضل منهم ، يسد الفراغ الكبير الذي سوف يحدثه ارتدادهم. وحيث ينعدم البديل ، يستبعد زوال هؤلاء عن كراسي الحكم ، لأنه سوف يؤدي إلى الإخلال بالدولة العلمانية وأهدافها الكبيرة.
صفحة (525) |
|