فمثلاً : يجد هذا الفرد المتدين أنه من الواضح جداً في الإسلام أن يحكم القاضي طبقاً لقانون البينة واليمين. فسوف يمنى بالصدمة العقائدية الشديدة ،حين يرى إمامه وقائده يخالف قواعد القضاء ،ويخالف باعتقاده واضحات الشريعة الإسلامية.

وحيث لا يعرف  هذا الفرد  وجوه التصحيح ، فسوف يحتج انتصاراً لإعتقاده ، بل قد يؤول موقفه إلى الشك بصدق المهدي(ع) ، إذ لو كان هو المهدي المنتظر لكان مطبقاً للشريعة ،في حدود ضرورياتها الواضحة على الأقل.

إنه من المحتمل  أن يكون مثل هذا الفرد  ، قد اعتقد بصدق المهدي (ع) مدة من الزمن ،وقاتل بين يديه وتحت قيادته قتال الأبطال ،وشارك بشرف فتح العالم بالعدل ،غير أنه يجد الآن بعد سماعه قضاء المهدي أنه كان متوهم، وان افعاله راحت هدر، أنه لم يكن في حسبانه أن هذا الإمام سيترك العمل بواضحات الشريعة.

وهكذا يبوء هذا الفرد بالفشل في هذا الإمتحان الجديد، فيصبح منحرفاً كان يجب عليه التسليم لإمامه في كلما يفعل ،لأن واضحات الشريعة الشريعة إنما تؤخذ منه لا أنها تفرض عليه ، فاستنكار ذلك يعد انحرافاً ،ولا بقاء للمنحرف في دولة العدل ،ومن هنا يأمر المهدي بقتل كل من يحتج على قضائه ، وبذلك يذهب جماعة ممن ضرب قدام المهدي (ع) بالسيف.

الحقل الثالث: يمكننا أن نلاحظ في هذه الأقضية عدة امور:

الأمر الأول : ان الإحتجاج  عليها خاص بالفقهاء العارفين بالشريعة ،ومن يقرب من مستواهم .وأما عوام الناس فلا معرفة له بصحة ذلك أو فساده .ومن هنا يكون في المحتجين من كان قد اعتقد بالمهدي وشارك في الفتح العالمي ممن له ثقافة إسلامية واسعة.

الأمر الثاني: أن الرواية لا تدل على انحصار الإحتجاج بأصحاب المهدي وإنما تدل على وجود الإحتجاج في اصحابه بالجملة ، بشكل يناسب أن يكون معهم غيرهم.

الأمر الثالث: أن الرواية لا تدل على كثرة المحتجين بشكل زائد في كل واقعة ، بل لعله عدد قليل.

 

صفحة (519)
 

الأمر الرابع : من المستطاع القول: أن هؤلاء المحتجين من أصحاب الإمام (ع) ، ليسوا على الإطلاق من المخلصين الممحصين  من الدرجة الأولى ،وإنما هم من الدرجة الثانية فما دون.

وهذا واضح من الرواية حين تقول : ينكرها بعض أصحابه ممن قد ضرب قدامه بالسيف .فإن الذي يباشر الحرب ويتعرض للقتل بشكل رئيسي هو الجندي المحارب ، دون القائد. وقد سبق أن عرفنا أن الجنود يمثلون الدرجة الثانية ، على حين لا يتولى الأفراد من الدرجة الأولى إلا مراكز اقيادة.

وأما المخلصون من الدرجة الأولى ، ففشل بعضهم في هذا الإمتحان ،وإن كان محتملاً على أي حال ، طبقاً لما قلناه من صعوبة هذا التمحيص، إلاأن االصفات الكثيرة التي سمعنا عنهم تنفي ذلك ..مثل  كونهم، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وكونهم من خشية الله مشفقون ،وكونهم رهبان بالليل وفرسان بالنهار ....،غير ذلك من صفاتهم .

فيكون من الراجح عدم فشلهم  في هذا  التمحيص ،واختصاص هذا الفشل بمن هو أقل منهم إخلاصاً وتمحيصاً.

الأمر الخامس: أن هذ الأقضية لا يعملها المهدي (ع) ، إلابعد انتهاء الفتح العالمي واستتباب الأمن ،والبدء بمباشرة التطبيقات الإسلامية على كافة الأمور ، بما فيها القضاء.

وهذا واضح من قوله :ممن ضرب قدامه بالسيف  ... الدال على أن الضرب بالسيف ، يعني الفتح العالمي يكون قد انتهى .وهذا واضح أيضاً من القرائن العامة ، إذ لا يكون للمهدي (ع) فرصة الفراغ إلى مثل هذه الأقضية  إلا بعد الحرب عادة ،وهناك بعض النقاط حول ذلك نوكلها إلى ذكاء القارىء.

الأمر السادس : أنه لا دليل على تتابع هذه الأقضية في أيام قليلة ،من قبل المهدي (ع) .والخبر الدال على ذلك وإن أوحى ظاهره بذلك إلا أن (العطف) بثم ذليل على التراخي والفصل بين قضاء وقضاء بمدة كافية .وإن كان المظنون أن مجموع هذه الأقضية لا يستغرق وقتاً طويلاً جد، بل يكفي فيه العام الواحد تقريباً.

الأمر السابع: أنه لا دليل على استمرار سيرة المهدي على العمل بهذه الأقضية ،وإنما هو يعملها في الفترة الأولى  من مباشرته للقضاء ....ثم يحكم أخيراً بقضاء محمد صلى الله عليه وسلم ويستمر عليه.

 

صفحة (520)
 

والمعتقد أن هذا صحيح بالنسبة قضاء لآدم وإبراهيم ،وأما قضاء داود فقد دل عدد من الروايات التي سوف تأتي على استمرار المهدي على ذلك ،ولا أقل من كونه مخيراً باستمرار بينه وبين قواعد القضاء الإعتيادية ،وهذا ما سوف نبحثه في محله من هذا الكتاب.

الأمر الثامن: أن أهم ما يبدو للناظر من فوائد هذا التمحيص ما يلي:

أولاً : ربط الدعوة المهدوية بخط الأنبياء ككل، حيث يكون من حق المهدي (ع) أن يقضي بأي أسلوب قضائي سار عليه نبي من الأنبياء السابقين، لوجود الإرتباط العضوي بين حلقات هذا التسلسل العام ، المنتهي بالمهدي  نفسه ،وقد أشرنا أنه من هذه الجهة. يلقب ببقية الله في الأرض .
وهذا مبرهم الصحة ، كما سبق أن عرفنا ، غير أن المهدي (ع) يقيم الآن دليلاً حسياً على ذلك:

ثانياً: إثبات سعة علم المهدي (ع) وإطلاعه على اساليب القضاء التي كان يتخذها الأنبياء السابقون ... أعني إقامة رقم حسي على ذلك.

ثالثاً : تربية الأمة والبشرية على أساس  قبول آراء المهدي وقوانينه وعدله العام بدون مناقشة ، لأن منها ما يتوقف على عدم إطلاع الأفراد على أسبابه بل يجب الأخذ بشكل تعبدي محض .وإلا لم يكن سبباً كاملاً للتربية المطلوبة.

ولذا نجد المهدي كما تدل عليه الرواية ، يترك الإعلان عن هوية القضاء الذي يقضيه فترة من الزمن ريثما يتعين من يقبله ممن يرفضه ، وبعد أن يتم القضاء على عناصر الإحتجاج والإستنكار ، يكون التمحيص قد تم، فتنفتح فرصة واسعة أمام المهدي  للإعلان عن هوية هذا الأسلوب القضائي الذي سار عليه أو ذاك. وبعد الإعلان تنتج الفائدتان الأوليتان.

الأمر التاسع : في قابلية هذه الرواية الدالة على ذلك ، على تعدد أساليب قضاء المهدي للإثبات التاريخي، والظاهر انها الرواية الوحيدة الدالة على ذلك ، في حدود علمنا ، فيكون البناء على صدقها وصحتها ، متفرعاً على قابليتها للإثبات التاريخي وقابليتها للإثبات متفرعة على وثاقة رواتها.

صفحة (521)