آخرون ممن قد ضرب قدامه بالسيف ،وهو قضاء إبراهيم (ع) ، فيقدمهم فيضرب أعناقهم .ثن يقضي الرابعة ،وهو قضاء محمد (ص) ، فلا يتكرها عليه أحد. وأخرج  المجلسي في البحار(1) بإسناده عن المفضل بن عمر ، قال الصادق (ع) :

كأني انظر إلى القائم على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أهل بدر .وهم أصحاب الألوية وهم حكام الله على خلقه ،حتى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب ، عهد معهود من رسول الله (ص) ، فيجفلون عنه أجفال الغنم .فلا يبقى منهم إلا الوزير وأحد عشر نقيباً ، كما بقوا مع موسى بن عمران (ع).

فيجولون في الأرض فلا يجدون عنه مذهباً، فيرجعون إليه ،وإني أعرف الكلام الذي يقوله لهم ، فيكفرون به.

الجهة الثانية : في فهم مفردات هذه الأخبار. أعني ما ورد فيها من الفاظ ومفاهيم بعيدة عن الذهن لكي يكون هذا منطلقاً إلى الفهم الكامل الذي سوف تعرب عنه في الجهات التالية :

(قضاء محمد) نبي الإسلام (ص) ، هو ما أعرب عنه قوله (ص) : إنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان .وهو حديث مشهور مروي بطريق الفريقين .وقد فهم منه فقهاء الإسلام قواعد القضاء الرئيسية للمرافعات وهو أن تكون البينة من المدعي واليمين على المنكر.

وأضاف (ص) في حديث(2):

فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً ، فإنما قطعت له به قطعة من النار ، يعني أن هذه القواعد  القضائية إذا أثبتت حقاً غير واقعي كان أخذه من قبل غير مستحقة حراماً غير مشروع ،وإن كان القاضي معذوراً باعتباره جاهلاً بالواقع ،ومتبعاً للقواعد الشرعية العامة الغالبية الصدق.


صفحة (510)
ـــــــــــــــــ

(1) ج13 ص184-185

(2) الوسائل ج3 ص435

 

(قضاء داود)(ع) ، هو ما شرحه القرآن الكريم في قوله تعالى:

"وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط .إن هذا أخي لها تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ،فقال: أكفلنيها وعزني في الخطاب .قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه .وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ،وقليل ما هم .وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب .فغفرنا له ذلك .وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب"(1).

والنقطة الرئيسية في هذه الحادثة التي ترويها الآية ، هو أن داود (ع) أخذ جانب المدعي من دون أن يطالبه بالإثبات القضائي ، اعني البينة .فقال: " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه".

وقد نطقت  به الأخبار أيضاً .منها عدد من الأخبار تدل على ان الخصوصية الرئيسية فيه هو الحكم طبقاً لعلم القاضي بواقع الحادثة ، لا طبقاً للبينة.

منها ما رواه الحر العالمي(2) بسنده عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (ع) – في حديث- ، قال:

إذا قام قائم آل محمد (ص) حكم بحكم داود (ع) لا يسأل البينة.

وفي رواية أخرى عن أبان قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:

لا تذهب الدنيا حاى يخرج رجل مني يحكم بحكومته آل داود ولا يسأل بينة ، يعطي كل نفس حقها.

وفي رواية أخرى مرسلة عن أبي عبد الله (ع) – في حديث – قال:

إن داود (ع) قال: يا رب إرني الحق كما هو عندك حتى أقضي به.

فقال : إنك لا تطيق ذلك .فألح على ربه حتى فعل ، فجاء رجل يستعدي على رجل ، فقال: إن هذا أخذ مالي فأوحى الله إلى داود بالمستعدي فقتل ، وأخذ ماله فدفع إلى المستعدي عليه .قال: فعجب الناس وتحدثوا ، حتى بلغ داود (ع) ودخل عليه من ذلك ما كره .فدعا ربه أن يرفع ذلك ففعل .ثم أوحى الله إليه أن أحكم بينهم بالبينات ، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به.


صفحة (511)
ـــــــــــــــــ

(1) سورة ص: 21-25

(2) الوسائل ج3 ص435.وكذا الخبران اللذان بعده

 

وإنما نقلنا هذا الحديث المرسل ، لوجود فارق بينه وبين الآية ، فإن الحادثة التي يعرب عنها الخبر لو صح- حادثو واقعية يمكن أن يعلم بها القاضي عن طريق الوحي أو عن طريق معاشرة الخصمين ونحوه. وأما الحادثة التي تعرب عنها الآية ، فالمشهور عنها أنها آية امتحانية ،أوجدها الله تعالى من أجل امتحان النبي داود (ع) واختباره وقد فشل في هذا الامتحان .وهو قوله تعالى "وظن داود أنا فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب"

فالخصمان لم يكونا خصمين حقيقة ،وإنما كانا ملكين أرسلهما الله تعالى لاختبار داود (ع) .واستدلوا على ذلك: بقوله : " إذ تسوروا المحراب" فإن البشر لا يتسورون الحائط على القاضي الذي يريدون التحاكم عنده. ولا يردون عليه في وقت عبادته ، بل في وقت استعداده للحكم.

وكان من واجب النبي داود (ع) طبقاَ للقواعد القضائية العامة أن يسأل من المدعي ،وهو صاحب النعجات التسع والتسعين ،أن يأتي بالبينة الدالة على أن تلك النعجة الواحدة له ،ولكنه اسرع بقبول قول المنكر بدون مطالبة البينة ،وصار إلى جانبه، بدون دليل .ولكنه فكر بعد ذلك وعلم بخطئه ، فاستغفر الله وخر راكعاً وأناب، فعفا الله عنه وأكرم مقامه.

غير ان الصحيح هو أن الآية لا تدل على أن الحادثة مصطنعة وغير واقعية ، بل تدل على واقعية الحادثة ، بعدة قرائن في الآية نفسها :

القرينة الأولى: قوله تعالى: الخصمين . فإن ظاهره كونهما خصمين حقيقة، وحمله على الخصمين المصطنعين خلاف الظاهر ، لأنه مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة.

القرينة الثانية : قوله : إن هذا أخي .وهو ظاهر بالأخوة الحقيقية .ومن المعلوم أنهما لو كانا ملكين لم يكن صدق ذلك ممكناً.

القرينة الثالثة : قوله : تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة .فإن ظاهره الملكية الحقيقية لنعجات حقيقية ،وما خالف ذلك محتاج إلى تأويل .

القرينة الرابعة : قوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ،فإنه لا يكون ظالماً على الإطلاق لو كانت المرافعة صورية ،ولكانت هذه الجملة كاذبة.

 

صفحة (512)