|
||
|
وأما ما ذكروه من أن العبور على الحائط ليس من أفعال البشر وفهو غير صحيح، فإنه أقرب إلى فعل البشر الدنيء منه إلى فعل الملائكة. وأما كون الحادثة لإمتحانه وفتنته ، كما دلت عليه الآية فعلاً ، فهذا لا يقتضي لإرسال الملائكة إليه ، بل يكون حاصلا مع وجود هذا الترافع بين بشرين ، بدليل على انهما لو كانا رجلين حقيقين لما كان في مستوى الإمتحان الإلهي أي تغيير. بل ليس في الآية الكريمة أن داود (ع) كان يعلم بحقيقة الموقف ، بطريق الغيب ،ولا أنه مال إلى جانب المدعي لمجرد سماع المرافعة .بل لعله كان يعرفهما عن قريب أو مطلع عل حالهما بشكل وآخر. وإذا كان المفروض لداود في هذه الحادثة وغيرها أن يحكم بعلمه ، كما سيحكم الإمام المهدي(ع) أحياناً ،إذا فحكمه صحيح لاغبار عليه ، وجائز للقاضي أحياناً ،إذاً كان نبياً أو ولياً على الأقل. ومن هذه الزاوية نعرف دليلاً آخرعلى واقعية هذه المرافعة ، لأنها لو كانت صورية لم يكن لوجود العلم بالواقع أي معنى. بل كان الأنسب أن يعلم داود (ع) أنها مرافعة صورية ،أو أن يعلم أن الأفضل السير على طبق القاعدة القضائية العامة .وحيث حكم في الواقعة بعلمه ،إذاً ، فهي حادثة واقعية. وأما توبته واستغفاره ، فهو ناشىء من أحد منشئين : المنشأ الأول: ما هو الموجود في بعض الأخبار ،من أن مؤدى هذه المرافعة ، كان مماثلاً لأمر كان يعيشه في حياته ،وهو أنه (ع) بالرغم من كثرة زوجاته ، طلب من أحد أصحابه أن يطلق زوجته لكي يتزوجها هو ،فأراد الله تعالى أن ينبهه على ذلك ، فقيض له هذه المرافعة. إذاً ، فاستغفاره لم يكن لأجل التسرع في القضاء ،وإنما كان من أجل موقفه الحياتي الخاص. المنشأ الثاني: أن كلا الأسلوبين القضائيين :أعني طلب البينة ،والحكم طبقاً للعلم ...كانا جائزين له ، فكان (ع) حين يرى اختلاف هذين الأسلوبين في النتيجة أحياناً فإنه يرجح الحكم بعلمه لأنه أوصل إلى الواقع من الطريق الآخر .كما في هذا المورد بالذات .
صفحة (513) غير أن متابعة العلم كان هو الأسلوب المرجوح في الشريعة الإلهية ، لأنه يتعذر استعماله دائماً ولكل أحد... وكان من الراجح استعمال الأسلوب القضائي العام وهو طلب البينة دائماً وبلا استثناء ، حتى لو كان خاطئاً أحيان، ليستقيم القضاء على وتيرة واحدة عنده وعند غيره من الناس. إذاً ، فقد استعمل النبي داود (ع) الأسلوب المرجوح في هذه الواقعة ، وعرف بعد ذلك أن هذا كان امتحاناً ، لأن الحادثة من موارد اختلاف الأسلوبين كما أشرن، وكان الراجح استعمال الأسلوب الآخر، فخر راكعاً وأناب. وقد يخطر في البال: أتن هذا الأسلوب إذا كان مرجوحاً ، فكيف سمعنا من الروايات عمل المهدي(ع) به . وجوابه يكون من عدة وجوه تأتي عند التعرض لقضاء المهدي (ع) ،وأوضحها أن ظروف التمحيص المخططة تجيز للمهدي (ع) ، ذلك ، على أقل تقدير. فهذا هو قضاء داود(ع) ،ولا مجال للتفصيل فيه أكثرمن هذا المقدار. وأما (قضاء إبراهيم) و(قضاء آدم) (ع) .فهو مما لم يرد في التاريخ ، إذ لم ينقل- حسب إطلاعي – أنه عرضت عليهما قضايا معينة حكماً فيها بأحكام خاصة .وإن كان لا بد أن هذا قد حدث فعلاً ، لأن البشرية لا تخلو من مخاصمات ، غير انه لم يردنا بالتحديد أنواع تلك القضايا ومؤديات الأحكام فيها .غير أن الإمام المهدي (ع) عالم بها ، فيمكنه تطبيقها في مواردها. قوله : (إن أصحاب طالوت ابتلوا بالنهر). وقصتهم مشهورة مذكورة بالقرآن الكريم لاحاجة إلى تفصيلها ،ولكن يحسن بنا عرض فكرة الإمتحان الذي مروا به. أنهم حين ساروا بقيادة طالوت مدة متوجهين إلى منطقة العدو ، مروا على نهر في طريقهم ،وكانوا في أشد التلهف إلى الماء هم ودوابهم .فأصدر طالوت القائد قراراً بعدم جواز الشرب من النهر إلا في حدود غرفة واحدة من الكف يشربها كل فرد: " قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني،ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"(1).
(1) البقرة : 249
وكان رد الفعل تجاه هذا التشريع من قبل الجيش على ثلاثة أقسام : القسم الأول : وهم الأكثرية الكاثرة ، الذين اسقطوا هذا الأمر عن نظر الإعتبار ،وشربوا من النهر بكثرة وسقطوا دوابهم .فكان أن عزلهم القائد عن الجيش ومنعهم من المسير معه ،وخرجوا بذلك عن الإيمان ،قال الله تعالى: "فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه" وهم غيرهذا القسم. القسم الثاني: وهم الذين أخذوا بالإستثناء في كلام القائد ، فشربوا بالمقدار الذي أجازه ،واكتفوا بالكف الواحدة عن الكثير. وقد دل سياق القرآن الكريم على ان هؤلاء هم الذين قالوا عند مواجهة العدو : "قالوا لاطاقة لنا بجالوت وجنوده". باعتبارهم القسم الأضعف إيماناً من الجماعة التي صاحبت القائد من حادثة النهر . القسم الثالث: وهم الذين لم يشربوا على الإطلاق ، أخذاً بالحيطة لدينهم وتقوية لعزائمهم وإرادتهم .ومن هنا لن ترهبهم كثرة العدو .بل قال "الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ،والله مع الصابرين". فالقسم الأول هو الفاشل في هذا التمحيص، والقسم الثالث هو الناجح بشكل كامل .والقسم الثاني كان ناجحاً في حادثة النهر ،ولكن برزت نقطة ضعفه في آخر لحظة عند مواجهة العدو، ففشل في هذا الإمتحان الجديد.
وقد يخطر
على البال :أن تطبيق هذا الإمتحان على أصحاب الإمام المهدي (ع) إنما هو باعتبار
التمحيص الموجود في التخطيط العام السابق على الظهور ، حيث عرفنا انقسام
المخلصين باعتباره إلى عدة أقسام، يكون الخاصة منهم كالقسم الثالث من أصحاب
طالوت ،وهم الذين حاربوا وانتصروا عليه ،وفي بعض الروايات التي سمعنا إحداها
فيما سبق أن عددهم كان أيضاً ثلاثمائة وثلاثة عشر. وجواب ذلك : أن هذا محتمل فعل، إلا أن ظاهر الخبر بخلافه ، حيث يقول : وإن أصحاب القائم (ع) يبتلون بمثل ذلك ،فإنهم لا يكونون أصحابه حقيقة إلا بعد ظهوره وانضمامهم إليه ، كما هو واضح. قوله: (شبه عبدة الشمس والقمر) وهم الملحدون والماديون ، يدخلون في (هذا الأمر) يعني الحق والعدل الذي يعلنه الإمام المهدي(ع) ويوضحه للعالم بكل صراحة.
|
|