وكذلك الرواية التي تعدد من أصحاب القائم : يوشع بن نون وسلمان ومالك الأشتر وغيرهم .فإنهم إن اردتهم بأشخاصهم ، فمن المعلوم أنهم ناجزون علماً وعملاً ولهم تاريخ إيماني ناصع قبل الظهور .وإن اردت الرواية أن اصحاب القائم المهدي يشبهون بهؤلاء  في صفاتهم الرئيسية ، فمن الواضح أن كونهم ناجزين في لعلم والعمل من أهم هذه الصفات .

وكذلك خطبة البيان حين  تصف عدداً منهم بكونهم : العارفين إقامة العائم أو كونهم رجالاً أتقياء ابراراً ، أو كون الفرد منهم نقياً من العيوب .فإنه واضح أن اتصافهم بذلك ثابت لهم في انفسهم  قبل حصول الظهور.

إذ، فالروايات لاقصور فيها عن الدلالة عن هذه الأطروحة.

الوجه الثاني : أنه ليس من الصحيح القول:بأنه يمكن أن يوجد التمحيص العالي والإخلاص الكبير، بدون ثقافة عالية تتناسب معه ،إذ من الجهل يكون الفرد معرضاً لكل فظيعة من دون أن يعلم، فيخلّ فعله بإخلاص هو يعتبر ذلك منه فشلاً في الإمتحان.

و بكلمة أوضح: إن رد  الفعل الصحيح  العادل تجاه الوقائع المختلفة ، الذي هو معنى النجاح في التمحيص ، لا يكون إلا مع معرفة ماهية رد الفعل هذا .

وهذه المعرفة تتوقف على العلم ، بل هي نفس العلم ،وكلما كان المتوقع من الفرد ردود فعل أصلح وأعلى ، كان العلم المطلوب منه اوسع وأعمق .

ومعه يكون الأفراد  العالين في التمحيص ، الذين هم "خير فوارس على وجه الأرض" هم أعلم أهل الأرض بالشريعة وأطلع الناس على دقائقها.

الوجه الثالث: أنه لاشك في وجود الفقهاء المحققين في علوم الشريعة والعلماء المطلعين على دقائقها في عصر ما قبل الظهور  بأعداد غير قليلة ،ولا يمكن القول – بطبيعة الحال -  بأن جميعهم من الفاشلين في التمحيص الإلهي ،بل أننا إن لم نقل بأن  جميعهم من الناجحين الممحصين ، فلا أقل من أن عدداً منهم كذلك ،فإن دقة العلم والثقافة الدينية مساوقة عادة مع الإخلاص والمحافظة على السلوك العادل ولا صفاء في النية، وبالتالي مع النجاح في التمحيص ،ما لم يكن الفرد متمرساً في الإجرام ومتوحشاً في الضمير.

وأما ما نجده الآن من ضعف الفقهاء الإسلاميين بالنسبة إلى القوى العالمية وانصرافهم الظاهري عن الخوض في الأمور العامة ،فهو ناشىء من مقدار إمكانياتهم ، وشعورهم بقلة تكليفهم الإسلامي من هذه الناحية .وسترتفع هذه الصفة عنهم بعد الظهور، بطبيعة الحال ،وسيتبعون في سلوكهم الجدي هدي الإمام المهدي وامره واهدافه ،وبالتاي يصلحون لأن يكونوا عدداً من المخلصين من أصحابه .

 

صفحة (502)
 

الوجه الرابع : أننا برهنا في هذا التاريخ وما سبقه ، على تطور الفكر الإسلامي خلال العصر الطويل السابق على الظهور ، تطوراً يؤهل الأمة خاصة والبسرية عامة لفهم القوانين والمفاهيم الجديدة التي يعلنها المهدي في دولته العالمية بعد الظهور...... التي يكون من الضروري إعلانها من أجل اكتساب(الأطروحة العادلة الكاملة) صفة العدل المطلق الذي يمكنه أن يعم العالم بالسعادة والرفاه ويسير به نحو الكمال.

ومن الواضح أن الفرد كلما كان أكثر إخلاصاً للإسلام وأشد تطبيقاً للعدل على حياته ، سيكون أحرص على فهمه واستيعابه ،ومواكبة آخر اشكال تطوره.وخاصة إذا كان احتمل أنه سيكون له مشاركة حسنة بشكل وآخر في الدولة المهدوية ،ولو كفرد اعتيادي عليه أن يفهم القوانين ويستوعب المفاهيم الجديدة المعلنة يومئذ ... فضلاً عما إذا شرف بإعطاء بعض درجات المسؤولية في تلك الدولة.

إذاً فالخاصة الثلاثمائة والثلاثة عشر، هم بكل تأكيد من مواكبي وقارئي أعلى تطورات الفكر الإسلامي ..إن  لم يكن العديد منهم ، من صانعي الفكر المتطور والمشاركين في إيجاده ،ونفس هذه الصفة تنطبق بدرجة أضعف على المخلصين من الدرجة الثانية ، غير أن القارئين المواكبين أوسع بكثير من المشاركين في التطوير.

إذاً ، فالأطروحة الثانية صحيحة ، لصحة الوجوه الأربعة الدالة عليها جميعاً غير أن هذه الوجوه تثبت الإستيعاب  النظري لتفاصيل الفكر الإسلامي . ولا تثبت وجود الممارسة الفعلية للحكم أو القضاء من قبلهم خلال العصر السابق على الظهور.

هذا ، مع العلم أن الممارسة الفعلية ليس لها دخل مهم في نجاح الفرد .في مهمته ، إذا كان مستوعباً لها نظرياً ،وعارفاً بطبيعة مجتمعه الذي أوكلت له قيادته .وخاصة مع الإلتفات إلى أن ذلك لو كان لازماً لكان لا بد لكل موظف أو حاكم أو قاض أن يكون متمرناً قبل ذلك. وهذه قضية (متناقضة) لأن كل حاكم وقاض لا بد أن يكون غير متمرن عند أول استلامه لمهمته وإلا لما أمكن  الحصول على أي  حاكم أو قاض عل الإطلاق.

وهذه الوجوه – أيضاً- تثبت إطلاع هؤلاء على الفكر الإسلامي السابق ، وأما التوجيهات المهدوية والقوانين الجديدة ، فهي تبقى محل حاجتهم بطبيعة الحال ، وهذا ما سنبحثه في الأطروحة الثالة .

 

صفحة (503)
 

الأطروحة الثالثة : إن المخلصين يتلقون ثقافتهم من الإمام المهدي (ع) ، على أحد مستويات محتملة ، بعد غض النظرعن تلقيهم الإعجازي منه (ع) ، الذي ناقشناه في الأطرحة الأولى :

المستوى الأول: إن المخلصين يتلقون ثقافتهم المعمقة التي تؤهلهم لتولي أعلى المناصب في دولة العدل العالمية ، من المهدي نفسه ، قبل ظهوره.

وذلك ،انطلاقاً من الفكرة التي سبق ان ذكرناها ، وهي ان المهدي لا يحتجب عن خاصته ،وأنهم يعرفونه بحقيقته في عصر غيبته ،وليس بين الفرد وبلوغه هذه المرتبة إلا أن يصبح من المخلصين الممحصين المبرئين من الذنوب والعيوب ،وقد دلت الأخبار على ان سبب احتجاب المهدي (ع) وغيبته إنما هو ذنوب الناس وانحرافهم ، فمع ارتفاع هذه الصفة الرديئة عن بعض الأفراد يكون سبب الغيبة مرتفعاً فيه ،ومعناه أنه سوف يرى المهدي (ع) بالرغم من احتجابه عن الآخرين .

ومعنى ذلك أن الجماعة المتصفين بالدرجة الأولى من الإخلاص كلهم يتشرفون بلقائه وسماع كلامه وتوجيهاته حال غيابه.

وهذا المستوى الأول : للأطروحة ، لطيف ومحتمل الصحة لو أخذنا بالفهم الإمامي لفكرة المهدي إلا أنه غير قابل للإثبات .

المستوى االثاني: أن المخلصين يتلقون كل ثقافتهم أو جلها بتعليم من قائدهم المهدي بعد ظهوره ، سواء في ذلك المستوى الفكر االعام والتعاليم الجديدة.

وأحسن ما يقال في هذا المستوى : أنه أمر مستأنف بالنسبة إلى المستوى الفكري العام الممكن اكتسابه طبقاً للأطرحة الثانية.

المستوى الثالث: إن المخلصين يتلقون تعاليم وثقافات جديدة من الإمام المهدي ،فوق مستواهم الفكري السابق ، قل ذهابهم إلى مناطق حكمهم تمهيداً لتمكينهم الكامل من الحكم العادل والقضاء الفاصل .

وهذا المستوى ضروري الصحة ، بعد وضوح عدم مساعدة الفكر الاسبق بالرغم من عمقه وشموله ، على انجاز الأهداف المهدوية العالمية.

صفحة (504)