وهذا واضح لكل فقيه إسلامي، على مختلف المذاهب الإسلامية ، ولا مجال في هذا التاريخ إلى الإفاضة في ذلك أكثرمن هذا المقدار.

المورد الرابع : الأحكام غير المطبقة في المجتمع المسلم ، بالرغم من وضوحها وثبوتها إسلامياً .سواء في ذلك الأحكام الشخصية العائدة إلى الأفراد أو العامة العائدة إلى تكوين المجتمع والدولة الإسلامية .حيث قلنا أن الفشل في التمحيص الإلهي يوجب خروج أكثر الأفراد عن أحكام الإسلام الواضحة وضروريات الدين . 

الجهة الثالثة:أنه بالرغم من وجود هذه الجهات من النقص والقصور في الأحكام الإسلامية خلال عصر الإنفصال عن عصر التشريع .

فإننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) وأشرنا في اول هذا التاريخ ،أن مرور زمن الغيبة الطويل، يكون مساعداً على رفع المستوى الفكري للأمة الإسلامية من نواحي عديدة ، مما يجعلها على مستوى فهم الأحكام الجديدة والعمق الجديد لعصر ما بعد الظهور . وهذا مستوى ضروري للأمة بل للبشرية كلها لكي تكون قابلة للتربية إلى المستوى اللائق بها المستهدف للإمام المهدي عليه السلام .

وقد ذكرنا أن المستوى الفكري للأمة خلال عصر الغيبة يتعمق من عدة جهات:

الجهة الأولى: تعمق المفاهيم والتصورات الإسلامية عن الكون والحياة ، في ذهن المسلمين عامة ،والمفكرين الإسلاميين  خاصة.

الجهة الثانية: تعمق الفهم القانوني والفقهي عند المسلمين ، باعتبار ما تستجد من وقائع من ناحية ،ومن طرق الإستدلال  من ناحية أخرى.

والفقه، وإن كان قائماً في الأعم الأغلب عل مستوى الحكم الظاهري كما قلنا .ولا يعني عمقه انكشاف الواقع للفقيه ... إلا أن طريقة استنساخ  الحكم وفهمه ، تكون أعمق وأشمل لا محالة .

الجهة الثالثة : الإطلاع على آراء وفلسفات الآخرين ، من مختلف التيارات الفكرية ، مع التعمق التدريجي في نقدها ومناقشتها .

 

صفحة (446)
ـــــــــــــــــ

(1)انظر ص287 وص 391 منه.


الجهة الرابعة : التعود بعمق على حمل الهموم العامة والإطلاع على اخبار الناس والتجاوب مع أحداث العالم ، هذا التعود الذي لو اصبح موجهاً توجيهاً إسلامياً لكان اهتماماً بأمور المسلمين وحملاً لهموم الأمة الإسلامية وبالتالي البشرية  ... كما هو اللازم على كل مسلم.

الجهة الخامسة : تعمق الفكر الكوني من الناحية العلمية ،كالطب والفيزياء والكيمياء والفلك وغير ذلك.

وكل هذه الجهات يكون طول المدة وكثرة البحث والتدقيق فيها موجباً لتطورها وتكاملها .حتى ما إذا وصلت الأمة إلى مستوى معين فيها ،كانت الأمة يومئذ قابلة لفهم العمق الحقيقي للمستوى الفكري الذي يقوم عليه نظام الإمام المهدي (ع) بعد الظهور.

الجهة الرابعة من هذا الفصل: ان المجتمع المسلم بشكل عام حين يصل الى المستوى اللائق المطلوب في تخطيط العام ، يكون في امكان الامام المهدي(ع) - بكل سهولة – إكمال تلك النواقص التي أشرنا إليها ، وسيكون له تجاه كل نقص موقف معين ، في حدود فهمنا في الوقت الحاضر:

الموقف الأول: موقفه من الأحكام غير المبلغة:

وهو واضح كل الوضوح ، فإن الأمة بعد بلوغها المستوى لفهم الأحكام الدقيقة المفصلة ....بعد أن كان الإمام المهدي (ع) هو الوريث الوحيد من البشر أجمعين لتلك الأحكام  غير المعلنة ، يرويها – بحسب الفهم الإمامي  - عن آبائه عن رسول الله (ص) عن الله جل جلاله ..إذن يكون الوقت قد أزف لإعلان تلك الأحكام لتشارك في البناء العالمي العادل الكامل ضمن التخطيط العام الجديد لما بعد الظهور .

هذا بحسب الفهم الإمامي للفكرة المهدوية. وأما بحسب الفهم الآخر لها لدى المسلمين الأخرين ، وهو أن المهدي شخص يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ... فمثل هذا الشخص يكون حاله حال سائر الناس في اختفاء الأحكام غير المبلغة عنه . وليست له أية وسيلة للعلم بها بشكل طبيعي ، لا بنحو الرواية ولا بغيرها.

كل ما نستطيع أن نتصوره له ، هو أنه يمثل القمة العليا في الفهم الإسلامي المعاصر له ، ذلك الفهم الذي علمنا أنه يحتوي – على عمقه وسعته – كل تلك النقائص التي سمعناها . فكيف يستطيع أن يملأ هذه  الفجوات ؟!..

 

صفحة (447)

 

وأما القول : بأن علم المهدي  بهذه الأحكام  يكون بطريق إعجازي ، كالإلهام ونحوه ،كما ذكر ابن عربي في الفتوحات(1) فهو غير صحيح لأمرين:

الأمر الأول:  إن هذا يتضمن معنى النبوة ، فإننا نعني بالنبوة نقل لأحكام من الله تعالى بلا واسطة بشر،وهذا المعنى يكون ثابتاً للمهدي. مع العلم لأنه لم يدع أحد أنه نبي ،ولا يجوز ذلك في شرعة الإسلام .

الأمر الثاني: إن هذه المعجزة منافية مع قانون المعجزات لعدم انحصار إقامة العدل بها ، لوضوح إمكان إبدالها بالفهم الإمامي للمهدي ليكون نقل الأحكام عن طريق الرواية  بشكل (طبيعي).

وأما ما أثبتناه في التاريخ السابق(2) من وجود الإلهام ، فهو لامحالة وخاص بالأساليب القيادية التي تمت إلى الوقائع الخاصة ونحوها بصلة ، لا إلى الأحكام الأصلية في الدين .

فإذا كان ما أثبتناه للإمام في التاريخ السابق(3) من وجود الإلهام ، فهو لا محالة ، خاص بالأساليب القيادية  التي تمت في الوقائع الخاصة ونحوها بصلة ، لا إلى الأحكام الأصلية في الدين .

فإذا كان من المقدر ان يكون الحكم المعين الجديد المعلن في دولة العدل العالمية المهدوية حكماً أصلياً وثابت، شأنه شأن وجوب الصلاة أو حرمة السرقة ، فمثل هذا الحكم لا يمكن أن يتلقاه المهدي (ع) مباشرة من الله عز وجل بالإلهام، وإلا ثبتت له مرتبة النبوة والرسالة ، المنفية عنه بالضرورة ،وإنما يكون ذلك بالرواية فقط. ويكون الإلهام مساعداً له فيما دون ذلك من الأشياء من خصائص القيادة العالمية.

الموقف الثاني: موقف المهدي (ع) من الأحكام التالفة.

وهو أيضاً واضح جداً ،فإن المفروض أن هذه الأحكام كانت معلنة في صدر الإسلام ، فهي لا تحتاج في فهمها  الى العمق الجديد في التفكير، وإنما كان فقط ، تحتاج المحافظة عليها وعدم إتلافها ،إلى مستوى معين من القدرة الدفاعية والشعور المسؤولية لدى المسلمين ، الأمر الذي كان مفقوداً خلال أجيال المسلمين التي فقدت هذه الأحكام .

والمهدي (ع) – بالفهم الإسلامي ـ يكون عارفاً بهذه الأحكام عن طريقين :

الطريق الأول : الرواية عن آبائه عن رسول الله (ص)عن الله عز وجل.

الطريق الثاني : معاصرة هذه الأحكام قبل تلفها ، حين كانت معلنة ومعروفة.


صفحة (448)
ـــــــــــــــــ

(1) انظر الفتوحات المكية .ج3 ص327 وما بعدها .

(2) تاريخ الغيبة الكبرى ص505.