والسر في ذلك – حسبما نفهم – أن فكرة (التمحيص) غير خاص بالناس الإعتياديين أو بالدرجات الدانية من الإيمان. بل تمتد هذه الفكرة بمعنى اشرنا إليه في التاريخ السابق(1) لتشمل القواد الرئيسيين بما فيهم الأنبياء والأولياء ، وتكون فكرة التمحيص بالنسبة إليهم لزوم مرورهم بمصاعب وجهود تساوي مستواهم العالي لينالوا بها مستويات أعلى من باب (تكامل ما بعد العصمة) كما ذكرنا هناك . ولو استقامت الأمور للقادة لكان ذلك على خلاف التمحيص بالنسبة إليهم .ومن ثم يحجب التكامل الذي  سينالونه بالجهود والمصاعب ، فيكون ظلماً لهم . وهو مستحيل عل الحكمة الإلهية .

مضافاً إل أن ظروف الجهود والمصاعب  التي يمر بها هؤلاء القادة ، ستكون محكاً لتمحيص كل الجيل المعاصر من مؤمنين وغيرهم . من حيث النظر إلى ردود أفعالهم تجاه تلك القيادة المحقة ، ومقدار ما يبذلون لها من جهود وتضحيات .

كذلك كانت قيادة النبي(ص) في صدر الإسلام ،وعلى ذلك ستكون قيادة الإمام المهدي (ع) في مستقبل الدهر .

هذا ، وإن استقامة الأمور عفواً تنشأ من أحد سببين :

السبب الأول: السبب الإعجازي ، وقد برهنا على عدم إمكانه، لإمكان التعويض عنه بالطريق الطبيعي بكل وضوح .

السبب الثاني : السبب الطبيعي . بمعنى اقتضاء التخطيط السابق على الظهور لهذه النتيجة ، بأن يدعي كل شخص : بأن هذا التخطيط العام سارعلى شكل منتج في نهايته لإستقامة الأمور عفواً للمهدي (ع)  .

إلا أن هذا السبب  أيضاً غير محتمل ، فإننا عرفنا كل تفاصيل التخطيط العام السابق  فلم نجد فيه ما يقتضي ذلك ، بل وجدنا فيه ما يقتضي العكس ، بمعنى أنه يقتضي وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل والحق ، بكل ما في الغزو من مصاعب وجهود وجهاد .

إذن ،  فاستقامة الأمور بقيت بدون منشأ صحيح ، فلا تكون قابلة للإثبات .


صفحة (405)
ـــــــــــــــــ

(1) ص506


مضافاً إلى قابلية نفس هذه الأخبار لنفيها كما هو واضح .

النقطة الثالثة : سمعنا من بعض الأخبار أن المهدي (ع) : لا يهريق دماً ولا يوقظ نائماً .كما سمعنا من بعض الأخبار الأخرى تكذيب ذلك . فبأي من القسمين نأخذ ؟

والذي يبدو : أننا تارة ننظر إلى أسلوب الفتح العالمي وتاسيس الدولة العالمية. وأخرى ننظر إلى المجتمع الناتج بعد تأسيس هذه الدولة ، ذلك المجتمع الذي تطبق فيه الأطروحة العادلة الكاملة .

فإن نظرنا إلى أسلوب الفتح العالمي وجدنا (السيف) مستعملاً فيه لا محالة طبقاً للروايات الكثيرة المتواترة ، التي لا تقوم بإزائها خبر واحد ، مضافاً إلى الحاجة إلى السلاح بإزاء القوى المعادية بعد البرهنة على نفي الأسلوب الإعجازي ، إذن فلا بد من تكذيب هذا الخبر ، إن كان المراد منه ذلك ،وهذا هو مراد الأخبار المكذبة  له والنافية لمدلوله .

وإن نظرنا إلى المجتمع العادل الذي يؤسسه المهدي (ع ) " لا يهريق دماً ". لعدم الحاجة إلى إهراقه . وهذا النظر الذي يؤكد أحد الأخبار المكفلة لبيان هذه الحقيقة حين يقول فيه : " يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً  ، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول ، لا يوقظ  نائماً ولا يهرق دماً ً " . وهو يكون واضح في ان عدم إراقة الدم إنما يكون بعد امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً ، وليس قبل ذلك . أقول: الأمر الأول المشار إليه هو الإسلام كما جاء به النبي (ص) ، وهو معنى تطبيق (الأطروحة العادلة الكاملة ) ، في دولة المهدي العالمية.

وأما الخبر الآخر الذي يقول " يبايع المهدي (ع) بين الركن والمقام . لا يوقظ نائماً ولا يهريق دماً " واضح في أن المهدي (ع) لا يهريق دماً حتى في عمليات الغزو العالمي .وقد علمنا ان المعنى  باطل بالضرورة ، فلا بد من تكذيب هذا الخبر .

النقطة الرابعة : نص عدد من الأخبار على اختلاف سيرة الإمام المهدي (ع) من الناحية العسكرية عن أسلوب النبي (ص) والإمام أمير المؤمنين .

 

صفحة (406)
 

وقد أشرنا إلى ذلك  ، ونريد الآن إعطاء المبررات التفصيلة له :

وما يمكن استفادته من مجموع الأدلة أمران :

الأمر الأول : إن القاعدة العامة للقادة الإسلاميين عموماً جوازاً على الجريح وملاحقة الفار وقتل الأسير ونحوها من التصرفات ... غير أن القادة الأوائل كفوا عن تطبيق هذا الحكم في عصورهم ، من أجل مصالح وقتية خاصة في تلك العصور ، قال علي (ع) - كما في الخبر - :  ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي إن جرحوا لم يقتلوا" . وهذه المصالح لن تتوفر في عصر الإمام المهدي (ع) ومن هنا يكون له أن يأخذ بتطبيق  الحكم المشار إليه الشامل بصفته أحد القواد الإسلاميين .

الأمر الثاني : إن القاعدة العامة للقواد الإسلاميين هو عدم جواز قتل الجريح وملاحقة الفار ونحو ذلك . فهم تركوا ذلك في عصرهم الأول لعدم جوازه بالنسبة إليهم .

ولكن سيصبح ذلك جائزاً للمهدي (ع) خلال الفتح العالمي " بذلك أمر في الكتاب الذي معه " . وهو استثناء خاص بهذه الفترة .وسيرتفع الحكم بالجواز بالنسبة إليه بعد الإنتهاء من الفتح العالمي . ويعود الأمر كما كان في عدم جواز هذا الأسلوب العسكري ... فيصبح الإمام المهدي (ع) " لا يهريق دماً ولا يوقظ نائماً ".

والسر في هذا الإختلاف ، على كلا التقديرين، هو اختلاف مستوى المجتمع الإسلامي الأول عن المجتمع المهدوي اختلافاً كبيراً جداً ....ذلك الإختلاف الذي عرفنا الكثير من خصائصه ومميزاته .

وأهم الخصائص التي تمت إلى تطبيق هذا الحكم بصلة ، هوأن الإيمان والكفر في العصر الأول ، كان في الأغلب من :إيمان ما قبل التمحيص .لأن المجتمع لم يكن قد مر بفترة التمحيص الكبرى المخطط له قبل (الظهور) . وسيكون الإيمان والكفر في المجتمع الآتي : إيمان ما بعد التمحيص وكفر ما بعد التمحيص ،بعد أن مر المجتمع بفترة التمحيص الكبرى .

إن مرور المجتمع بهذه الفترة ليس أمراً هيناً أو ضئيلاً . يكفينا أن تصور أن القاتل (المؤمن) والمقتول (الكافر) في العصر الأول . لم يكن التمحيص قد شملهما ، ومن ثم فإدراكهما لأهمية القتال ونتائجه سوف تكون أقل بدرجة كبيرة ، مما إ ذا كانا معاً قد مرا بفترة التمحيص ، فأكتسب الإيمان أهميته في نفس المؤمن واكتسب الكفر أهميته في نفس الكافر أو المنحرف واتسع أفقهما العقلي والثقافي إلى حد كبير .

إن كافر ما قبل التمحيص ، لمدى بساطته وضآلة مستواه ، (لا يستحق) إجراء هذا التكتيك العسكري الصارم عليه . وأما كافر ما بعد التمحيص ، بإعتبار أهميته وعمق مستواه ، فإن أقل ما يستحقه من جزاء هو ذلك. فإنه طالما حارب الحق والعدل خلال عصر التمحيص بهمة ووعي، وبكل غلظة ، فينبغي أن  يأخذ عقابه  اللازم بهمة ووعي و بكل غلظة ." لا يكفون سيوفهم حتى يرضى الله عز وجل " .

 

صفحة (407)