فإن الاغراء الذي قد يواجهه الفرد على قسمين :

القسم الأول :

الاغراء الناتج من مصالحه الشخصية وشهواته النفسية ، باعتبار ما للشهوات

الغريزية من اندفاع الاشباع ، من دون أن تنظر إلى الطرق والوسائل .  وقد قيل صدقاً : إن الغرائز لا عقل لها .

القسم الثاني :

الاعراء الناتج من قبل الآخرين ، حين يرى الفرد ما لعصر الفتن والانحراف من جمال وحضارة وتنظيم ... وما لاتباع تياراته وحكامه من ضمان للمال والشهوة والراحة في الحياة .  فيأتي كل ذلك إلى نظر الفرد بهيجاً عظيماص يغويه بالاتجاه نحوه والحصول عليه والعمل على الوصول إليه .

والقسم الأول ، مواكب للبشرية على طول وجودها الطويل ، ما دام في الانسان في الانسان شهوات وما دامت له مصالح خاصة . لا يختلف فيه عصر الغيبة الكبرى عما قبله أو ما بعده .  وهذا هو المحك الأساسي للتمحيص العام للبشرية أجمعين .

إلا أن القسم الثاني خاص بعصر الغيبة الكبرى ، بصفتها عصر الفتن والانحراف .  لوضوح أن المصالح الشخصية التي تقتضي الاغراء بالحصول على القوة والمال ، كلها موجهة إلى دولة الحق ، عند وجودها في عصر النبوة أو عصر الظهور ... بخلافه في عصر الغيبة ، فانها موجهة للحضارة المادية والحكام المنحرفين .

الأمر الرابع :

إيمان الفرد بالمهدي (ع) ، ويتجلى ما يستلزمه من تضحيات ومصاعب ، في مستويات ثلاثة :

المستوى الأول :

كونه إيماناً بالغيب ... فيلاقي من العقبات ما قلناه في الأمر الأول ، سواء كان باعتبار الايمان باليوم الموعود ، الذي يطبق الله تعالى أطروحته الكاملة على البشر .  أو باعتبار الإعتبار الإيمان بالمهدي (ع) على الخصوص كقائد لذلك اليوم الموعود .

أو باعتبار الايمان فعلاً بوجود المهدي (ع) وغيبته ... على الاختلاف بين الناس في هذه العقائد الثلاث.  فان الايمان بأي واحدة منها إيمان بالغيب ، فضلاً عن الايمان بها جميعاً ، طبقاً للفهم الامامي للمهدي (ع) .  فانها جميعاً خارجة عن الحس الاعتيادي .  إلالأولئك الخاصة الذين شاهدوا المهدي (ع) على وجه التعيين .  وقليل ما هم .

صفحة (368)

المستوى الثاني :

إستلزام طول مدة الغيبة وتماديها ، بحسب الذهنية الاعتيادية للبشر ، فيما شاهدوا من مقادير عمر الانسان ، استلزامه لاستبعاد وجود المهدي (ع) خلال هذه المدة ، وترجيح موته أو عدم ولادته .

كيف وهو المذخور لنشر العدل ورفع الظلم ، فلماذا لا يخرج لنشره وهو يرى الظلم المتفاقم على وجه الأرض .  وقد أسلفنتا الجواب على مثل هذه الأسئلة ، فلا نعيد .

المستوى الثالث :

ما يستلزمه الايمان بوجود المهدي (ع) وعلمه بأعمال الناس ومشاهدته للمجتمع عن كثب حال غيبته ... من شعور الفرد بالمسؤولية المضاعفة ، بالتركيز على العمل الصالح على الصعيدين الشخصي والاجتماعي ، ليكون عند حسن ظن قائده به وثقة إمامه .

ومن الواضح ، أن الإيمان بالغيبة وما تتضمنه من مصاعب ، غير موجود ، لا في عصر النبوة ، ولا في عصر الظهور .

إذن ... فهذه أمور أربعة ، تمثل المسؤوليات المهمة والتضحيات الكبرى التي يجب على الفرد المسلم القيام بها خلال الغيبة الكبرى .  وهي التي – بمجموعها – جعلت هذه الفترة من عمر البشرية الطويل ، أصعب الفترات ، من حيث تأكد التمحيص وعمق الامتحان .  والتي جعلت الفوز فيه بالشكل الكامل الشامل ، قليلاً ومحتاجاً إلى زمان طويل وتربية مستمرة ، سواء على مستوى الفرد ، أو على مستوى الأمة جميعاً .

كل ذلك ، ليتحقق الضمان الأكيد في الحصول على جماعة من الصامدين ضد كل هذه المصاعب ، الناذرين أنفسهم في سبيل ربهم وعقيدتهم على كل حال ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ... ليكونوا هم أعوان المهدي (ع) في نشر القسط والعدل على وجه البسيطة في اليوم الموعود ... وبغير هذا المستوى من الاخلاص ، لن يمكن تحقيق الحكم العالمي العادل ، بأي حال من الأحوال .

صفحة (369)

فهذا هو الكلام في الناحية الأولى ، في ما تقتضيه القواعد العامة من فضل الاخلاص والمخلصين خلال عصر الفتن والانحراف ، بشكل يفوق غيره من العصور .

الناحية الثانية :

فيما نطقت به الأخبار من فضل المؤمنين المخلصين المضحين في سبيل الله في عصر الفتن والانحراف ... المنتظرين لليوم الموعود ، فيما قبل الظهور .

أخرج مسلم (1) والترمذي (2) وابن ماجة (3) عن النبي (ص) أنه قال : العبادة في الهرج كهجرة إليَّ .

والفهم الواعي الصحيح لهذا الحديث الشريف ، يتوفق على تقديم عدة مقدمات :

المقدمة الأولى :

إن المراد بالهرج ، وهو الفتن والانحراف الذي يقع في عصر الغيبة الكبرى .

باعتبار ما نطقت به أخبار الفريقين ومصادر العامة على وجه الخصوص ، من وقوع الهرج والقتل والفتن خلال هذا العصر .  فان هذه الأخبار ، تكون قرينه تدلنا على ان المراد بالهرج في هذا الحديث هو عصر الهرج والفتن ، لا نفس الهرج ، وهو القتل .

المقدمة الثانية :

يراد بالهجرة إلى النبي (ص) : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام . وهو في واقعه أساس الأعمال الاسلامية جميعاً ومبدؤها الذي تنطلق منه ، لأنها تعبير آخر عن اعتناق الاسلام نفسه .

المقدمة الثالثة:

قد عرفنا ما تقتضيه القواعد من أن الإيمان والعمل الاسلامي ، كلما واجه من العقبات أكثر واحتاج من التضحيات إلى عدد أكبر ، كان مقرباً إلى الله تعالى بشكل أعمق وموجباً لتكامل الفرد بنحو أسرع .
___________________
(1) جـ8 ، ص 208 .
(2) جـ 3 ، ص 332 .  (3) جـ 2 ، ص 1318 .

صفحة (370)

المقدمة الرابعة :

يراد بالعبادة ، معناها العام ، لا خصوص الصلاة والصوم ، وإن كانت هذه من أقدس أشكال العبادات .  بل يراد كل عمل مطلوب في الاسلام يحققه الفرد امتثالاً للأمر الالهي ، وتطبيقاً لتعاليم الإسلام .  فتشمل العبادة بهذا المفهوم سائر العال الاسلامية ، الفردية منها والاجتماعية ، كما سبق أن حملنا عن ذلك فكرة كافية ... وحققناه مفصلاً في بحث متكامل عن المفهوم الواعي للعبادة في الاسلام .

إذن ينتج من هذه المقدمات الأربع : أن مراد النبي (ص) من حديثه هذا هو : أن العمل الاسلامي في سبيل الله بمختلف مستوياته ، مما يقع في عصر الهرج والفتن والانحراف له من الفضل عند الله وعند رسوله ، كفضل اعتناق الاسلام نفسه .

وليس ذلك بالعجيب ، بعد الذي سمعناه من الأخبار ورأيناه بالعيان ، من مجابهة الفتن والانحراف ، للعقيدة من مجابهة الفتن والانحراف ، للعقيدة والمعتقدين ، وقهرهم على ترك الإيمان والخروج عن طاعة الله عز وجل ، بمختلف وسائل الظلم والاغراء ... إذن فتكون المحافظة على العقيدة والبقاء على السلوك الصالح ، من الأهمية كالدخول في الاسلام لأول مرة ، وليت شعري ، قد يكون البقاء على العمل الصالح مستلزماً للتضحية والمتاعب أكثر مما يستلزمه اعتناق الاسلام لأول مرة .

وأخرج ابن ماجة (1) والترمذي(2) في حديث رسول الله (ص) قد سبق أن سمعنا قسماً منه ، أنه قال : فان من ورائكم أيامٍ الصبر .الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر . للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون بعمله .

فالعمل الواحد المتشابه ، يتضاعف فضله وأجره ، بتضاعف التضحية في سبيل تحقيقه . حتى إذا ما وصلت التضحية إلى أوجها ، وكان التمسك بالدين كالقبض على الجمر في الشدة والبلاء ، وصل الفضل والأجر إلى أوجه أيضاً ... وكان العمل الواحد ، من الرجل الواحد ، في مثل هذا الظرف ، معادلاً لعمل خمسين عامل مثله ، في حال الرخاء والدعة .
_________________

(1) جـ2 ، ص 1331 .  (2) جـ2 ، ص 437 .

صفحة (371)

ورقم الخمسين ، بطبيعة الحال ، لا يراد به التحديد ، بل هو لمجرد المبالغة والتكثير كقوله تعالى : ﴿أ، تستغفر لهم سبعين مرة ﴾(1)  . فلا ينافي القول بأن فضل الفرد الصابر المجاهد قد يفرق عمل غيره باضعاف هذا المقدار ، بازدياد ما يتحمل من المحن والآلام .

وروى الكليني في الكافي (2) بسنده إلى عمار الساباطي . قال قلت لأبي عبد الله (ع) : أيما أفضل العبادة في السر مع الامام المستتر في دولة الباطل ، أو العبادة في ظهور الحق ودولته (3) مع الامام منكم الظاهر .

فقال : يا عمار : الصدقة في السر أفضل من الصدقة في العلانية .  وكذلك – والله – عبادتكم في السر مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وحال الهدنة ، أفضل ممن يعبد الله عز ذكره ، في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق .  وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق ...

إلى أن يقول : قلت : قدر الله رغبتي في العمل وحثثتني عليه .

ولكن أحب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق ، ونحن على دين واحد .

فقال : أنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل ، وإلى الصلاة والصوم والحج ، وإلى كل خير وفقه ، وإلى عبادة الله عز ذكره سراً من عدوكم مع إمامكم المستتر ، مطيعين له صابرين معه منتظرين لدولة الحق ، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة ... مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوكم  .  فبذلك ضاعف الله عز وجل الأعمال ، فهنيئاً لكم .
قلت : جعلت فداك ، فما ترى إذن أن نكون من أصحاب القائم ، ويظهر الحق .ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك ، أفضل أعمالاً من أصحاب دولة الحق والعدل .
___________________
(1) التوبة 9/80 . (2) أنظر المصدر المخطوط .  (3) في المصدر المخطوط : ودولة . والظاهر أنه تحريف .

صفحة (372)

فقال : سبحان الله .  أما تحبون أن يظهر الله تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد ، ويجمع الكلمة ويؤلف الله بين قلوب مختلفة ، ولا يعصون الله عز وجل في أرضه وتقام حدوده في خلقه ، ويرد الله الحق إلى أهله ، فيظهر حتى لا يختفي شيء من الحق ، مخافة أحد من الخلق (1) . أما والله يا عمار ، لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها ، إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد .
فابشروا .

ودلالة على هذه الرواية على تفضيل العبادة والعابدين والصبر والصابرين، خلال عهود الظلم والانحراف ، على العبادة في عهود الراحة والرخاء ، ذلك الرخاء الناتج عن حصول دولة الحق بقيادة الإمام المهدي (ع) وتطبيقه للأطروحة العادلة الكاملة على العالم . دلالة على ذلك ، أوضح من أن يخفى أو أن يكون محلاً للمناقشة .

ولكننا من أجل تجلية الموقف ، نود التعرض إلى نقطتين :

النقطة الأولى :

أنه قد اشترط الإمام الصادق عليه السلام ، في هذه الرواية ، في تحديد فضل الصابرين ... بأن يكونوا مع إمامهم المستتر .يعني : المستتر بإمامته ، لا يباشر الحكم .فقد يقول قائلاً : أننا الآن في عصر الغيبة الكبرى لسنا مع إمام ظاهر ، ولا مع إمام مستتر – بذلك المعنى – فلا يكون لمخلصنا من الفضل ما وصف في هذه الرواية .

ويجاب عن ذلك ، على مستويين :

المستوى الأول :

أننا بالفعل مع إمام مستتر ، طبقاً للمفهوم الامامي ، الذي انطلقت منه هذه الرواية ... ولسنا محرومين من هذه المزية لكي لا يشملنا الفضل الموصوف في الرواية .فان المهم هو كون الفرد موافقاً مع الإمام إماناً وعقيدة .  وتستطيع أنت أن تضيف إلى ذلك – إن رغبت - : كونه معاصراً له في الزمان . وكلا هذين الأمرين متوافران لدى من يعتقد بالغيبة .فانه يعتقد أنه على طول الخط معاصراً زماناً مع إمامه المهدي (ع) ،ومتفق معه في العقيدة والإيمان . وأما كون الامام معروفاً بالشخص فهذا ليس له أي دخل في صدق كون الفرد معه ، كما هو واضح .
___________________
(1) في المصدر المخطوط : مخافة أحد من أحد من الحق . وهو تخريف ، يرجح أن يكون صحيحه ما أثبتناه .

صفحة (373)

وبتعبير أدق : إن المهم الذي أكدت عليه الرواية ، هو كون الامام مستتر بإمامته خوفاً من الظالمين ... كون الفرد مطيعاً له عقيدة وسلوكاً . وهذا بنفسه متوفر في عصر الغيبة ، بالنسبة إلى الفرد المخلص ، كما كان متوفراً في عصر الأئمة (ع) . فان كلا العصرين ، هما من عصور الفتن والانحراف وانحسار الحق واستتار الامام . ولا يبقى لمعروفية الامام بشخصه دخل مهم من هذه الجهة .

المستوى الثاني :

أننا نفترض – جدلاً – أن وجود الغيبة يمنع من كوننا مع الامام . أو نجر الكلام إلى من لا يقول الغيبة أصلاً .  ولكن مع ذلك نقول بشمول الفضل الموصوف في الرواية للمخلصين الموجودين خلال عصر الفتن والانحراف .

فان ما هو المدار في ثبوت الفضل ، وما هو الأساس في التمحيص الالهي ، على ما عرفنا ، إنما هو الخوف ، من الظلم والصمود ضد كيد الأعداء وضد مطاردة المنحرفين ... فان العمل والعبادة خلال الخوف ، أفضل وأعلى في درجات الكمال ، من العمل في عصور الاطمئنان والرخاء . وهذا الجو العاصف موجود في القرون المتأخرة ، كما هو موجود في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام بدون فرق .فان كلا العصرين ، من عصور الفتن والانحراف.

ويزداد الخوف وتتكاثر المصاعب ضد المخلصين ، في العصور المتأخرة عن عصر الأئمة (ع) من عدة نواحٍ :

الأولى : إن الحكم في ذلك العصر ، مهما كان مصلحياً ومنحرفاً ، كان يقوم باسم الاسلام ، وعلى أساس تطبيقه .  على حين لا نجد اليوم على وجه الأرض حاكماً على الاطلاق يمثل هذا الاتجاه . بعد أن اتجهت أساليب الحكم إلى المادية والعلمانية .

الثانية : أن التنظيم العام الذي تقوم عليه الدولة في ذلك العصر ، كان أبسط بكثير مما تقوم عليه الدول اتلآن .  من جهات عديدة جداً .  في الجهاز العسكري وجهاز الشرطة ونوع الأسلحة وشكل الحكم وأسلوب التجسس والمطاردة ، وتنظيم الدولة ، والأحزاب والتكتلات ... إلى غير ذلك .

صفحة (374)

الثالثة : أنه في ذلك العصر ، كانت تغزو المجتمع تيارات إلحادية وأساليب هدامة ، إلا أنه كانت ضعيفة ، مرفوضة من قبل الرأي العام المسلم ومطاردة من قبل السلطات الحاكمة .  وأما التيارات الالحادية ونحوها ، اليوم ، فهي مدعمة بتفكير المفكرين وتأليف المؤلفين ، ووسائل الاعلام العالمية ، ومدعمة أيضاً بالتأييد المطلق من قبل كثير من الدول ، تبذل عليها الميزانيات الطائلة والأساليب الهائلة .

وتطارد من يعارضها ويدعو الناس إلى رفضها والتوجه إلى الحق ، المتمثل بالاسلام وتعاليم الله عز وجل .

ومن هنا نفهم أن الظلم فيما بعد عصر الأئمة (ع) أشد وأوكد ، والتمحيص الالهي أعقد .  فإذا  كان لأصحاب الأئمة عليهم السلام ، من الفضل ما ذكرته الرواية ، فهو أوكد وأعمق في حق المخلصين المتأخرين عن ذلك العصر .  وكلما تعقتد التمحيص وصعب ، كان الفضل عند الله أكثر والكمال المحرز في الإيمان والاخلاص أكبر .

النقطة الثانية :

قول الامام الصادق (ع) – بحسب الرواية - : لا يموت منكم ميت على الحال الذي أنتم عليها ، إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد .

فابشروا .
وهذا واضح وصحيح ، بعد أن نلاحظ أمرين مما قلناه :

الأمر الأول :

ما قلناه ، من أفضلية الممحصين الكاملين الصالحين لقيادة العالم بين يدي المهدي (ع) .من الأعم الأغلب من أصحاب رسول الله (ص) .كما سبق أن برهنا عليه .

الأمر الثاني :

ما قلناه قبل قليل ، من أفضلية من يعيش في عصر الغيبة عمن يعيش في غيره من العصور ، ولو أثبت الفرد الجدارة والصمود ضد الظلم والانحراف .

فإن قال قائل : انهم قد استشهدوا في سبيل الله تعالى دوننا ، فيجب أن يكونوا أفضل منا .

صفحة (375)

قلنا: كلا .  فان الشهادة التي نالها الأغلب في بدر وأُحُد ، كانت باعتبار الاندفاع الثوري والوهج العاطفي الحراري الذي أوجده رسول الله (ص) في مجتمعه .  كما سبق أن عرفنا .  ومثل هذا العمل وإن كان يمثل نجاحاً كبيراً في التمحيص الاختياري ، إلا أنه لا يمكن أن يكون سبباً لتربية الفرد وتكامله ، ودقة تمحيصه ... فان ذلك ما يحتاج إلى زمان طويل وتسلسل تدريجي بطيء ، وتكامل متواصل ... ولا يمكن للفرد أن يقفز دفعة واحدة إلى الكمال ، مهما كانت الظروف التي عاشها صعبة ومتعبة .

ومثل هذه التربية البطيئة ، يمر بها الفرد المسلم بل الأجيال المسلمة في عصر الغيبة الكبرى ، بشكل أطول وآكد بكثير مما مر به أصحاب رسول الله (ص) خلال عقدين من الزمن .  وستنتج نتائج أوسع وأعمق وذات مستويات أكبر مما نتج بالنسبة إلى الأغلب ممن عاصر النبي (ص) .  كما استطعنا أن نتبين خطوطه العريضة فيما سبق من البحوث .

                                              * * *                             

وبذلك نستطيع أن نفهم سائر الروايات الواردة في فضل الصامدين على الحق المنتظرين لليوم الموعود .

منها : ما رواه الصدوق في الاكمال (1) عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ، أنه قال- في كلام له عن المهدي (ع) - : له غيبة يرتد فيها أقوام ، ويثبت على الدين فيها آخرون . ويقال لهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله وآله الطاهرين الأخبار .

وما أخرجه البرقي في المحاسن (2) عن الإمام الصادق (ع) ، قال : من مات منكم على أمرنا هذا فهو بمنزلة من ضرب فسطاطه إلى رواق القائم ، بل بمنزلة من يضرب معه بالسيف ، بل بمنزلة من استشهد معه ، بل بمنزلة من استشهد مع رسول الله (ص) .
___________________________
(1) أنظر المصدر المخطوط .  (2) جـ2 ، ص 172.

صفحة (376)