وفيه أيضاً عن الامام الباقر عليه السلام ، في ذكر الدين الذي يقبل فيه العمل .  قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ... إلى  أن يقول : والورع والتواضع ، وانتظار قائمنا .  فان لنا دولة ، إذا شاء الله جاء بها .

إلى غير ذلك من الأخبار ، وسيأتي فيما سنسمعه من الأخبار الناطقة بفضل الانتظار والمنتظرين ، خلال عصر الغيبة ، ما يدل على ذلك أيضاً . 

وقد سبق أن تكلمنا عن المفهوم الصحيح للانتظار ، وها قد سردنا الأخبار الدالة على ذلك .  وأما السؤال عن منافاة مفهوم الإنتظار مع العلامات المجعولة للظهور ، أو عدم منافاتها معه ، فقد سبق أن ناقشناه .  وسيأتي تفصيل ذلك ، في القسم الثالث من هذا التاريخ .

وقد يقول قائل : إن أغلب هذه الأخبار ، لم تنص على أن المراد هو انتظار ظهور المهدي (ع) أو اليوم الموعود .  فلعل المراد هو انتظار الفرج بعد أي شدة .

فنقول في جوابه : أنه يمكن الانطلاق إلى اثبات اختصاص هذه الأخبار بانتظار ظهور المهدي (ع) من زاويتين :

الزاوية الأولى :

الاستفادة من الأخبار المصرحة بذلك ، مما ذكرناه ...وجعلها قرينة على أن المراد من الأخبار الأخرى هو ذلك أيضاً.

وليس في ذلك ما ينافي كلا الأطروحتين : الامامية وغيرها في فهم المهدي (ع) .  فان انتظاره على كل حال من أفضل العبادة ... سواء كان المهدي (ع) موجوداً غائباً أو لم يكن .

الزاوية الثانية :

إن انتظار الفردج الذي يكون مهماً إلى هذا الحد ، ومشدداً عليه في لسان المعصومين عليهم السلام بهذا المقدار ...حيث نسمع أنه أحب الأعمال إلى الله عز وجل ، وأنه أفضل العبادة ، وأنه أساس من أسس الدين ... هذا لا يمكن أن يكون انتظار الفرج من مشكلة معينة أو صعوبة فردية .  فان غاية ما يطلب من الفرد إسلامياً خلال المصاعب هو الصبر ، وعدم الاعتراض على الله في ذلك . وأما انتظار ارتفاع الصعوبة ، فلا يعطي مزية زائدة بحسب ما هو المفهوم منالقواعد العامة في الإسلام .

صفحة (362)

وإنما هذا الانتظار الكبير ليس إلا انتظار اليوم الموعود ، باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الالهي ، والمشاركة في إيجاد شرط الظهور ، في نهاية المطاف ...كل ذلك لمن يشعر بهذا الانتظار ويكون على مستوى مسؤوليته ، بخلاف من لا يشعر به ، بل يبقى على مستوى المصلحة والأنانية ...فانه لن ينال من هذه العبادة الفضلى شيئاً .

ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين ... لأنه مشاركة في الغرض الأساسي لايجاد البشرية ، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .

إذن فهذه الأخبار ، لا يمكن أن يكون لها معنى ، إلا المشاركة في هذا الهدف الكبير .

                                                   *     *     *

الجهة الخامسة :

في فضل الانتظار والمنتظرين ، خلال عصر الغيبة الكبرى ... والصابرين على البأساء في عهد الفتن والانحراف .
وننطلق إلى الكلام في ذلك من ناحيتين :

الناحية الأولى :

فيما تقتضيه القواعد العامة الاسلاميةمن ذلك :
يقوم الفرد المسلم المخلص في عصر الغيبة الكبرى بعدة مهام إسلامية ، لها أكبر الفضل وأعظم الأثر في تربية الفرد وتكامله ، وقربه من تعاليم ربه ورضاه .ويفضل في ذلك – احياناً – حتى على عصر النبوة وعصر الظهور. وتتلخص تلك المهام في عدة أمور :

الأمر الأول :

الإيمان بالغيب . فان الفرد المسلم في هذا العصر ، يختلف حاله عن المسلمين في عهد النبي (ص) من حيث وضحوح الاعتقاد بالعقائد الاسلامية ، وقربها إلى الحس ، طبقاً لما يميل إليه البشر من ميلهم إلى شهادة الحس وانشدادهم إلى الزمان والمكان .

صفحة (363)

وقد كان هذا موفراً في عهد النبي (ص) ، حين كان هو (ص) الذي يمارس الدعوة الاسلاميةبيده ، فتتوفر على يده العديد من المزايا التي لا يمكن أن يوجد مجموعها في أي عصر آخر .

المزية الأولى :

قوة الاقناع الناتجة مما له من الثقافة الالهية العالية ... وما له من الهيبة في نفوس المسلمين .

المزية الثانية :

تلقى الوحي من الله عز وجل ، في القرآن وغيره .حتى لكأن الفرد الاعتيادي آنذاك ، يحس بأثر تعاليم الوحي في حياته العملية ، وتطبقها ف يمجتمعه الذي يعيشه ،ويحس بما يستجد من تعاليم وتوجيهات ... وبما ينزل من قرآنمبشراً ومنذراً ومعلماً ومهدداً .

المزية الثالثة :

العدل الشامل الذي ساد الدولة الاسلامية في عصره (ص) ... ذلكالعدل الذي أعطى الدليل التاريخي الحاسم على مر العصور ، وإلى يوم الظهور الموعود ... على نجاح التجربة الاسلامية في مجال التطبيق .

المزية الرابعة :

النص المؤزر المستمر الذي كان يناله الجيش الاسلامي بقيادته (ص) ، مما لا يمكن أن يخطر على بال ، بحسب التخطيطات العسكرية المعروفة يؤمئذ ... بل في كل عصر ، مع حفظ النسبة بين الجيشين المتحاربين عدة وعدداً .  وذلك نتيجة للتوفيق الالهي الذي كان يحالفه في غزواته ، كما نطق به التنزيل ، ودلت عليه التجربة التاريخية .

صفحة (364)

المزية الخامسة :

شخصيته (ص) من حيث كونه المثل الأعلى للخلق الاسلامي الرفيع .  فقد طبق على نفسه التعاليم التي جاء به بدقة وإخلاص ، فكان مثلا ًيحتذى وقدوة للورى وكمالاً إنسانياً عالياً ، حتى نطق التنزيل بالاعجاب به وتأييده بقوله عز من قائل : ﴿ وأنك لعلى خلق عظيم ﴾(1) .

إلى غير ذلك من المميزات التي لا شك أن لها الأثر البالغ العميق في تقريب الفرد من الايمان وإيضاحه له وترسيخه في نفسه ... حتى أنه ليكاد يرى جميع العقائد والمفاهيم التي يبشر بها النبي (ص) حسية جلية واضحة للعيان ، بالرغم من كونها أموراً فكرية أو ميتافيزيقية .

ورغم هذا الوضوح ، فقد مدح الله تعالى : ﴿ الدين يؤمنون بالغيب ﴾(2) و ﴿الذين يخشون ربهم بالغيب﴾(3) ، وأثنى عليهم في عدد من مواضيع كتابه الكبير .

وسيتوفر مثل هذا الوضوح ، في تطبيق آخر لهذه المميزات العديدة ، ما عدا الوحي ، في القائد الاسلامي العالمي الجديد ، المهدي (ع) الذي سيتكفل إيضاح الدعوة الاسلامية وتطبيقها على البشر أجمعين .

إلا أن شيئاً من هذه المميزات ، لا يكاد يوجد في عصر الغيبة الكبرى ، عصر الفتن والانحراف . ومن هنا ، كان الإيمان بالعقائد الاسلامية بالنسبة إلى الفرد الاعتيادي ، أبعد عن الحس ، يحتاج إلى صدر أرحب ووجدان أخصب وتعب ف يالفحص والتفكير أكثر ... خاصة بعد الحكم الاسلامي ، وتأكيد القرآن على عدم جواز التقليد في العقيدة ، وشجب اتباع الاباء والمربين بدون برهان ، بل لا بد للفرد أن يأخذ بزمام عقيدته بنفسه ويومن بها عن الوعي واقتناع .
________________
(1) القلم ك 68/4 .
(2) البقرة : 2/3 . (3) الأنبياء : 21/49 .  والملك : 67/12 ، وفاطر : 35/18 .

صفحة (365)

ومن المعلوم أنه كلما حصل العناء في سبيل العقيدة الالهية ، أكثر ، واستلزم الايمان تضحية أكبر ... وكانت النتائج صحيحة صالحة ... كان ذلك موجباً للكمال البشري والقرب الالهي بشكل أكبر وأعظم .
وهذا المعنى بالذات ، من جملة حلقات التخطيط الالهي لتربية الأفراد المخلصين الممحصين في عصر الفتن والانحراف . وسنوضح ذلك بعد قليل .

الأمر الثاني :

مما يقوم به الفرد المخلص في عصر الغيبة : تحمل التضحيات والمشاق في سبيل إيمانه وتمسكه بإسلامه ... تلك المشاق التي لم تكن موجودة في عصر النبوة ولن تكون موجودة في عصر الظهور .

فإن المشاق التي تبذل عادة في سبيل العقيدة على قسمين :

القسم الأول :

ما يبذله الفرد عن طواعية واختيار ، من خدمات وأتعاب .وهو ما سميناه بالتمحيص الاختياري .وعرفنا أثره الكبير في تكامل الفرد طبقاً لقانون التمحيص العام . 

القسم الثاني :

ما يقع على الفرد من الآخرين في المجتمع ، من قهر ومطاردة وإيلام ، ضد إيمانه وأعماله وعقيدته .

ويختلف هذان القسمان في ثلاثة مستويات رئيسية :

المستوى الأول :

إن القسم الأول مشترك بين عصر النبوة وعصر الغيبة وعصر الظهور . فان لكل عصر من هذه العصور مشاكله التي تحتاج من المخلصين المبادرة إلى حلها .وحسبنا من ذلك ، إن الفرد في عصر النبوة كان يخرج طواعية لينال الشهادة في سبيل الحق والواجب .

ولكن القسم الثاني : غير موجود في المجتمع الذي يحكمه الاسلام ، سواء في عصر النبوة او عصر الظهور ... وإنما هو بعصر الفتن والانحراف ... هذه العصور التي نعيشها ، حيث أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، وطورد المخلصون على اخلاصهم وحسن تصرفهم .

صفحة (366)

المستوى الثاني :

إن القسم الأول من التضحية منسجم مع العقيدة ، لا يجد الفرد فيه أي مجابهة لها أو مناقضة لمقتضياتها .  باعتبار كون القيام به مطابق مع تعاليمها وفي مصلحة الدعوة اليها والتركيز عليها .

وأما القسم الثاني ، فهو يتضمن – بشكل مباشر وصريح – مجابهة للعقيدة ، وأيقاعاً للظلم على الفرد باعتبار ما يحمله من إيمان وما يقوم من عمل في سبيل الحق .

المستوى الثالث :

إن القسم الثاني أكثر إيلاماً للنفس وأصعب تحملا ًللفرد من الأول .

فإن القسم الأول من التضحية ، مهماجر من مصاعب وآلام ، فانه أمر اختياري للفرد لا يجد فيه أسفاً .  وإنما يجد فيه المخلص حلاوة الايمان ونور العمل الصالح .

وأما القسم الثاني ، فيجد فيه الفرد ضغط الاضطرار وقسوة المرارة وضيق الالم ... ولولا ثقة الفرد بربه وعقيدته ، وقائده المهدي (ع) ، لكان من الهالكين .

وعلىأي حال ، فمن الجلي أن تحمل التضحية من كلا القسمين ، كما عليه حال العمل العام خلال الغيبة ، أصعب منه وأعقد من تحمل قسم واحد من العمل .  وهذا أيضاً أحد عناصر التمحيص الالهي وأسبابه ، على ما سنذكر .

الأمر الثالث :

صمود الفرد ضد الاغراء ، بشكل غير موجود ، لا في عصر النبوة ولا في عصر الظهور .

صفحة (367)