وأخرج
أيضاً (1) : من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له ، كان كمن كان في
فسطاط القائم (ع) . وعن الإمام الباقر (ع) – في ضمن حديث أنه قال : القائل
منكم : إن أدركت القائم من آل محمد نصرته ، كالمقارع معه بسيفه ... الحديث .
بل أن
الممحصين الكاملين لأعظم حتى من هذه الدرجة كما تدل عليه روايات أخرى :
منها : ما
رواه الصدوق في إكمال الدين (2) أيضاً عن الإمام بن الحسين (ع) في
حديث له عن المهدي (ع) : إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره ،
أفضل من أهل كل زمان ، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والافهام والمعرفة
ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان ، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين
بين يدي رسول الله بالسيف . أولئك المخلصون حقاً ... والدعاة إلى دين الله سراً
وجهراً .
وما رواه
الشيخ في الغيبة(3) عن النبي (ص) أنه قال : سيأتي قوم من بعدكم ،
الرجل الواحد منهم له اجر خمسين منكم . قالوا : يا رسول الله ، نحن كنا معك ببدر
وأُحُد وحنين وأُنزل فينا القرآن . فقال : لو تحملون لما حملوا لم تصبروا صبرهم
.
إذن
فهؤلاء الممحصون الكاملون ، أفضل من عامة المعاصرين للنبي (ص) .
والسر فيه
ما قلناه من فجاجة أولئك من حيث التمحيص ، وعمق هؤلاء . والشخص الفج لا يتحمل
التمحيص العميق بطبيعته ، وهو معنى قوله : انكم لو تحملون لما حملوا ، لم تعبروا
صبرهم .
______________________________
(1)
المصدر والصفحة وكذلك الخبر الذي يليه . (2) أنظر
المصدر المخطوط . (3) أنظر
ص 275 وأخرجه في الخرايج ، ص 195 .
صفحة
(377)
ونود أن
نعلق على هذه الأخبار الأخيرة بنقطتين :
النقطة
الأولى :
إن
التعبير بالفسطاط وبالسيف ، إنما جاء في هذه الروايات ، مماشاة مع ما يعرفه الناس
في عصر صدور هذه الروايات . وقد سبق أن قلنا في أول القسم الثاني من هذا التاريخ
، أننا يجب أن نبحث عن مصاديق جديدة لمثل هذه التعبيرات ، مناسبة للعصر الذي
تتحدث عنه . فيكون المراد بالسيف سلاح الامام المهدي (ع) وبالفسطاط مقره أو
عاصمته أو نحوها .
ومن
المحتمل أن يكون المراد بالبفسطاط المدرسة الفكرية ، بحسب ما نصطلح عليه اليوم
أوالمبدأ المستلزم لاتجاه فكري وسلوكي خاص في الحياة .
والقرينة
على ذلك ، ما رواه أبو داود (1) عن رسول الله (ص) في حديث له عن
الفتنة ، قال : يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، حتى يصير الناس إلى
فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه .وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ... الحديث .
فان
المراد منه – بكل وصوح – المدرستين الفكريتين أو المبدأين العقائديين ، شبههما
بفسطاطين لجيشين متحاربين كما كان عليه أهل ذلك الزمان .
النقطة
الثانية :
عرفنا في
الجانب الأول من الحديث عن الانتظار والمنتظرين ، نفس ما أقادتنا إياه هذه
الروايات من كون الفرد الممحص الكامل أفضل من كثير من المستشهدين بين يدي رسول
الله . كما عرفنا أنه بمنزلة المعاصرين مع المهدي (ع) العاملين في سبيل
نصرته
وذلك
التجاور المكاني والزماني ، ليس له حساب في العقيدة والعمل ، وإنما الذي يؤخذ
بنظر الاعتبار هو درجة الاخلاص ، والايمان . وقد عرفنا أن أصحاب المهدي (ع) على
درجة عليا من الاخلاص الممحص وقوة الايمان ... فإذا كان الفرد في عصر الغيبة
ممّحصاً بنفس الدرجة كان مثل أصحاب المهدي (ع) بطبيعة الحال .
_________________________
(1) جـ2 ،
ص 411 .
صفحة
(378)
إلا أن ما
ورد في بعض الروايات ، من أن الفرد المخلص في زمان الغيبة ، كالمستشهد بين يدي
المهدي (ع) ، مما لا يكاد ينسجم مع القواعد إذ المفروض تماثل
الفردين في الاخلاص الممحص ، مع زيادة الآخر بفضل الشهادة في سبيل الله عز وجل .
إلا أن ينال هذا الفرد في عصر الغيبة ، الشهادة في سبيل الله أيضاً .
* * *
الجهة
السادسة :
في
المنزلة السئلة والقيمة المنحطّة لأعداء المهدي (ع) في عصر الهدنة ، عصر الغيبة
الكبرى وما قبله .
روى
النعماني في الغيبة (1) والصدوق في الاكمال (2) والطبرسي
في الاعلام (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أقرب ما يكون
العباد إلى الله عز وجل ، وأرضى ما يكون عنهم إذا فقدوا حجة الله ، فلم يظهر لهم
، ولم يعلموا بمكانه . وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجج الله عنهم ولا تبطل
بيناته ز فعندها فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً .
وإن أشد
ما يكون غضب الله على أعدائه ، إذا افتقدوا حجته ، فلم يظهر لهم . وقد علم أن
أولياءه لا يرتابون . ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين . ولا
يكون ذلك إلا على رأس شرار الخلق .
ويقع
الكلام في هذه الرواية ، ضمن عدة نقاط :
النقطة
الأولى :
فيما هو
مقتضى القاعدة لتحديد درجة مسؤولية الفرد تجاه العصيان لأحكام الاسلام في عصر
الغيبة الكبرى.
الصحيح هو
تضاؤل المسؤولية إلى حد ما في العصيان أثناء عند الفتن والانحراف والاغراء ،عنها
في الزمن المعاصر لعصر التشريع ... لكن لا بدرجة يلزم منها انعدام الاختيار وسقوط
التكليف .
_________________________
(1) ص 83
وما بعدها . (2) أنظر
المصدر المخطوط . (3) ص 404
.
صفحة
(379)
ويتم
البرهان على ذلك بمعرفة عدة مقدمات :
المقدمة الأولى :
في إيضاح مراتب الجبر والاختيار .
فإن الفرد لا تكون إرادته في كل الأفعال على حد سواء ، بل تختلف على مراتب متعددة
، تضعف في بعضها حتى تنعدم وتوجد في بعضها حتى تتضح ...
كما يبدو من المراتب الآتية :
المرتبة الأولى :
الجبر الفلسفي ، بمعنى أن الانسان يقوم بأعماله ، كما يصدر النور من الشمس
والرائحة من الزهر ، أو كالقلم بيد الكاتب والعصا في يد الضارب . وهو أعلى درجات
الجبر وانعدام الارادة وفقدان الاختيار .
ويقوم هذا الجبر على أحد أساسين :
الأساس الأول :
الأساس المادي .. كالقول بالمادية التاريخية التاريخية ، الذي يربط التطورات
التاريخية ، وجميع تصرفات الأفراد بتطور وسائل الانتاج . فالفاعل المؤثر – في
الحقيقة – هي هذه الوسائل ، وليس للانسان أي يد في تغيير ما يقوم به من أعمال .
وهذا واضح من اتجاه الماديين التاريخيين ، إذ لو كان للأفراد اختيار في أفعالهم ،
لكانوا هم صانعي التاريخ والمشاركين في تطويره ، ولم يكن تطويره مستنداً تماماً
إلى وسائل الانتاج ، كما قد أكدوا عليه .
والظاهر أن كل كل المذاهب المادية ، تقول بالجبر الفلسفي هذا ، باعتبار أن القول
بالاختيار اعتراف بأمر ميتافيزيقي لا يمكنهم الايمان به .على أنه يتضمن
المنافاة للعلل المادية الضرورية التأثير في الانسان ... تلك العلل التي تقدمها
هذه المذاهب .
الأساس الثاني :
الأساس الالهي ، بمعنى أن الله تبارك وتعالى هو الفاعل المؤثر في إيجاد أفعال
الانسان ، إيجاداً قهرياً . وأشهر من يقول بذلك هم الأشاعرة من المسلمين واليهود
من أهل الكتاب .
صفحة (380)
وكلا الأساسين باطلان في الاسلام : أما الأساس الأول ، فباعتبار مناقضة المادية
مع الاسلام في النظر إلى الكون والحياة أساساً كما هو المبرهن عليه في كتب
العقائد . وأما الأساس الثاني ، فلاستلزماته بطلان الثواب والعقاب ، وسقوط الفرد
عن استحقاقه . كما هو المبرهن عليه في كتب العقائد أيضاً .
المرتبة الثانية :
القسر على فعل معين ، بعد الاعتراف ببطلان الجبر في المرتبة الأولى ... كما لو شد
وثائق شخص بحبل- مثلاً – والقي في فمه الماء أو الطعام ، أو نقل من مكان إلى آخر
محمولاً .
ولا يسمى ذلك بالاضطرار اصطلاحاً ، وإن كان يمكن أن يسمى به .
المرتبة الثالثة :
الاكراه ، مع افتراض توفر الاختيار في المرتبتين السابقتين .
وأوضح أشكاله هو التهديد أو بالشر المستطير ، لشخص على أن يعمل عملاً ما ،
تهديداً قابلاً للتطبيق ... فيضطر الفرد لايقاع الفعل قهراً عليه .
ولهذه الاكراه أشكال أخرى ، كما لو كان التهديد متوجهاً إلى شخص والأمر متوجهاً
إلى شخص آخر . كما لو أمرك شخص بفعل ، مهدداً إياك بقتل ولدك مثلاً .وكما لو
كان الأمر متعلقاً بايقاع أحد أمور متعددة ، لا بإيقاع شيء واحد . مثل ما إذا
قال ذلك الشخص : اعمل كذا أو كذا وإلا قتلتك .
المرتبة الرابعة : الاضطرار ، وهو الالتجاء إلى فعل معين تجنباً لأمر آخر وشيك
الوقوع عليه .
كما لو باع داره التي يسكنها لسداد دينه أو الصرف على صحته ... وغير ذلك .
وهاتان المرتبتان غير منافيتين للاختيار بالدقة ، فان الفرد يوقع الفعل بإرادته
على أي حال ، وإن كان فعله قد يكون مخالفاً لهوى النفس أو للعقيدة التي يحملها
مخالفة شديدة . على حين كانت المرتبتان الأوليتان ، منافيتين مع الاختيار مباشرة
، إذ لا معنى للاختيار الفعلي مع أي منهما .
صفحة (381)
المرتبة الخامسة :
ما نستطيع أن نسميه بالاضطرار غير المباشر .وهو عبارة عن ردود فعل معينة تجاه
مؤثرات عامة أو خاصة ، يقوم بها الانسان بإرادته واختياره . لكن لا يكاد يوجد له
منها مناص عرفاً وعادة ... وإن وجد المناص منها عقلاً.
يندرج في ذلك الكثير من الأفعال ، كاضطرار التاجر إلى بيع سلعته بأرخص مما
اشتراها أحياناً .وكاستمرار المعتاد أو المدمن على شيء ، وعدم استطاعته ترك
عادته ، كالادمان على الخمر أو التدخين مثلاً .وكاستمرار المختص بحقل من حقول
المعرفة في التدقيق وزيادة البحوث في حقله ، دون الحقول الأخرى .
فالطبيب المتمرس – مثلاً – لا يمكن له أن يكون فيزياوياً أو مهندساً معمارياً .
وكالتزام الشخص الاعتيادي بتقاليد مجتمعه وعقائد آبائه . وكاضطرار الجوعان إلى
الطعام في موعده ، ما لم يصل إلى حد الخوف من الهلاك، فيكون مندرجاً في المرتبة
السابقة .
ولهذه المرتبة مستويان يختلفان في درجة انحفاظ الاختبار .
المستوى الأوةل :
أن تكون ظروف الفرد وملابساته تعيّن عليه الفعل ، بحيث يكون قاصراً عن تركه ، ولا
مناص به عرفاً عنه .
المستوى الثاني :
أن لا يبلغ التسبيب إلى درجة القصور ، بل تكون له فرصة الاختيار عرفاً ، وإن كان
الدافع إلى الفعل والحافز عليه شديداً .
وأمثلة هذين المستويين ، نسبية تختلف بين فرد وآخر وفعل آخر ، بحسب اختلاف الظروف
النفسية والعقلية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، مما يمر به هذا
الفرد أو ذاك .فقد يكون الفرد قاصراً عن ترك شيء ، ولا يكون الفرد قاصراً عن
ترك شيء ، ولا يكون فرد آخر قاصراً عن ترك نفس الشيء . أو يكون فرد قاصراً عن
شيء دون شيء آخر .
فمثلاً قد يكون أحد الأطباء قادراً بحسب ظروفه على أن يختص بالفيزياء أيضاً .
ولا يكون طبيب آخر غير قادر على ذلك ، بحسب ظروفه وهكذا .
صفحة (382)
|