الأمر الثاني:

أننا – على أي حال – نجهل تلك الأحكام بالمرة، والجهل بالحكم بهذا الشكل، سبب طاف للمعذورية عن امتثاله أمام الله تعالى ورسوله (ص)، بحسب قواعد الإسلام.

إذن، فتكون الأحكام الإسلامية الصادرة المعلنة، منذ عصر الرسالة، نافذة المفعول، بكل تفاصيلها وخصائصها،من دون معارض ولاناسخ، ويجب على الفرد إطاعتها وامتثالها. وهو واضح من وجهة النر الإسلامية.

وهذا هو المراد من عدد من الأخبار على اختلاف مضانيها، تأمر المسلم بالبقاء على ما كان عليه من عقيدة وتشريع... بالرغم من تيار الفن وشبهات الانحراف.

أخرج ابن ماجة(1) عن رسول الله (ص) أنه ذكر التكليف في عصر الفتن فقال: تأخذون بما تعرفون وتعدون ما تنكرون. وتقبلون على خاصتكم وتذرون أمر عامتكم.

والمراد بهذا الحديث الشريف، بعد فهمه على أساس القواعد الإسلامية العامة... وهو وجوب الأخذ بما قامت عليه الحجة من أحكام الإسلام أو عقائده. بمعنى أنه متى دل الدليل الصحيح على كون شيء معين هو حكم إسلامي أو عقيدة إسلامية، وجب الأخذ به، بمعنى لزوم العمل عليه إن كان حكماً ووجوب الاعتقاد به إن كان عقيدة. وأما ما كان محالفاً لذل، فيجب رفضه واعتباره انحرافاً وفساداً.

وأما الذين يشخصون ذلك، ويفهمون ما هو الحكم الإسلامي من غيره، وما هو الدليل الصحيح وما هو الفاسد، فليس هم العامة أو الجمهور الذين ينعقون مع كل ناعق يميلون مع كل ريح... فإنهما – لا محالة – تؤثر فيهم موجات الانحراف وتغريهم المصالح والشهوات. فيحب الاعراض عنهم كوجهين وقادة وأصحاب رأي. وإنما توكل هذه المهمة إلى المختصين بالنظر إلى الأدلة الإسلامية واستنتاج الأحكام، والمفكرين الذين اتبعوا أنفسهم في تحقيق وتدقيق العقائد والمفاهيم والأحكام.
ــــــــــــــ
(1) أنظر السنن ص 1308 جـ 2.

صفحة (313)

وبهذا بريد النبي (ص) أن يلفت نظر الفرد المسلم إلى وجوب الإلتفاف حول هؤلاء الخاصة من العلماء الذين يطلعونه على الحق ويبعدونه عن الباطل، وينقذونه من تيار الفتن، ويحرزون له النجاح في التمحيص الالهي الكبير.

ومثل هذا الحديث عدة أخبار، رواها الصدوق في إكمال الدين(1) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. ففي أحد الأخبار يقول (ع): إذا أصبحت وأمسيت لاترى إماماً تأتم به ( يعني عصر الغيبة الكبرى ) فأحبب من كنت تحب وأبغض من كنت تبغض، حتى يظهره الله عز وجل.

وفي حديث آخر: تمسكوا بالأمر الأول حتى تستبين لكم. وفي حديث ثالث: فتمسكوا بما في أيديكم حتى يتضح لكم الأمر. وفي حديث رابع: كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع عليكم نجمكم (يشير إلى ظهور المهدي (ع)).

والأمر الأول الذي في اليد، هو أحكام الإسلام وعقائده الصحيحة النافذة المفعول في هذه العصور. ومعنى التمسك به تطبيقه في واقع الحياة، سلوكاً وعقيدة ونظاماً.

وكل هذه الأخبار، تعم العقيدة والأحكام... ما عدا الخبر الأول منها، فإنه خاص بالعقيدة. فإنه أمر الفرد المسلم بحب من كان يحب وبغض من كان يبغض. والحب والبغض بالمعنى الإسلامي الواعي الدقيق، يتضمنان نقطتين رئيسيتين:

النقطة الأولى:

ويعتبر الفرد من يحبه مثالاً ومقتدى، بصفته ممثلاً كاملاً للسلوك الإسلامي والكمال البشري. فيحاول الفرد جهد إمكانه أن يحذو حذوه ويقتفي خطاه. حيث لايمكن أن يصل إل الكمال بدون ذلك.

وفي مقابلة من يبغضه الفرد المسلم من المنحرفين والمنافقين. فإنهم مثال للسوء والظلم، يجب الابتعاد عنهم ومغايرة سلوكهم، لكي يمكن للفرد الحصول على الكامال والسلوك الصحيح.
ـــــــــــ
(1) أنظر المصدر المخطوط

صفحة (314)

النقطة الثانية:

إذ يعتبر الفرد المسلم من يحبه مطاعاً في أقواله، واجب الامتثال في أحكامه. لأن أحكامه هي أحكام الإسلام وأقواله تطبيقات لما يرضي الله عز وجل. إذن، فلا يمكن أن يتحقق السلوك الصالح بدون ذلك.

فانظر إلى الجانب العقائدي، كيف يعيش في الحياة متمثلاً في السلوك الصالح ... وإنما حصل التعرض إلى الجانب العقائدي في الأخبار، لا باعتبار اختلاف العقيدة الإسلامية في زمن المهدي (ع). إذ من المعلوم أنه عليه السلام لا يغيّر العقائد والأحكام الرئيسية في الإسلام. وإنما يتصرف فيما دون ذلك.

وعلى أي حال، فنحن الآن غير مسؤولين عن أحكام الهدي (ع) بل يكفينا الاعتقاد بما عرفناه من الإسلام، وإيكال ما يحدث بعد الظهور إلى وقته.

ومن هنا نعرف نعرف أنه لماذا عبر في الخبر عن الأحكام الحالية بالأمر الأول أو ما في اليد، وذلك: بمقايستها إلى أحكام ما بعد الظهور. وكذلك التعبير: بمن كنت تحب ومن كنت تبغض. فإنه بمقايسة من يجب أأن يحبه ويطيعه من أولي الأمر الموجودين بعد الظهور.

وأخرج الكليني في الكافي(1) والصدوق في إكمال الدين(2) والنعماني في الغيبة. عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، حين يسأله الرواي عن تكليفه في زمان الغيبة(3) حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال وتنتشر الشبهات. قال الرواي: فكيف نصنع. قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة. فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس. قلت: نعم. قال: زالله لأمرنا أبين من هذه الشمس.
ــــــــــ
(1) أنظر المصدر المخطوط. (2)  أنظر المصدر المخطوط. (3)  أنظر ص 77.

صفحة (315)

فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة (ع) الذين هم البقاء الأمثل للنبوة والإسلام … باعتبار وضوح ما هم عليه من الحق ، كوضوح الشمس المشرقة ، وقيام الحجة فيه على الخلق . فلا بد من التمسك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى ، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف .

ولئن كان هذا الحديث مما لا يومن به إلا القواعد الشعبية الامامية ، فإن الأخبار المتقدمة تعمهم وغيرهم من أبناء الإسلام .

* * *

الجهة الرابعة : هل المطلوب خلال الغيبة الكبرى ، إتخاذ مسلك السلبية والعزلة ، أو المبادرة إلى الجهاد.

ويتم الكلام في هذه الجهة ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى : في محاولة فهم العنوان :

دلنا الوجدان والأخبار الخاصة والقواعد العامة ، على ما سمعنا ، على أن زمان الغيبة الكبرى ، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد . فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث ، وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع . أو أن وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعال ، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان .

دلت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عز من قائل : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (1). وقوله : ﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين (2) .

ودلت الغالبية العظمى من أخبار التنبؤ بالمستقبل على وجوب السلبية والانعزال . بحيث استغرقت كل أخبار العامة تقريباً ، وأغلب أخبار الخاصة . ولم يكد يوجد من الروايات الآمرة بالمبادرة إلى الجهاد والأخذ بزمام الإصلاح ، إلا النزر القليل . وسنعرض لهذه الأخبار فيما يلي من البحث .
ــــــــــــــــــ
(1)  
الأنفال : 8 / 60. (2)    التوبة 9 / 120 .

صفحة (316)