النقطة
الرابعة:
للبحث عن الانتظار-: في اختلاف مفهومه باختلاف عصور الدعوة الإلهية.
سبق أن برهنا أن إيجاد اليوم الموعود، هو الغرض الأساسي من إيجاد البشرية...
وقد خطط الله تعالى لإيجاده منذ فجر الخليقة، ولازال هذا التخطيط سارياً إلى
حين تحقق نتيجته النهائية وغرضه الأصيل.
وقد كان انتظار البشرية لليوم الموعود، موجوداً، منذ بلغ الأنبياء السابقون
عليهم السلام البشرية عن وجوده... إلا أن الانتظار اكتسب صيغاً متعددة بتعدد
أزمنة تطور البشرية نحو ذلك الغد المنشود. فإن البشرية قد مرت – بهذا الاعتبار
– بأربعة أو مراحل:
المرحلة الأولى:
فترة ما قبل الإسلام. وقد كان الناس خلالهما يفهمون من كل نبي يبلغهم عن اليوم
الموعود، أمرين مقترنين: أولهما: الإهمال من التاريخ وإيكاله إلى إرادة الله
تعالى محضاً. وثانيهما: أن هذا النبي يبلغهم عنه، ليس هو القائد المذخور لهذه
المهمة، وإنما سيوجد في المستقبل البعيد شخص آخر يكون مطلعاً بها، وقائداً
للبشرية من خلالهما.
إذن، فالانتظار لم يكن حاملاً لنفس المفهوم الذي يحمله في عصر الغيبة الكبرى...
فبينما نرى أن صيغته الأخيرة هي: توقع حدوث اليوم الموعود في كل حين، على ما
سبق... نرى أن صيغته يومئذ كانت تتضمن العلم بعدم حدوثه السريع، والاكتفاء
بالاعتقاد بأن هذا مما سيحدث جزماً في المستقبل البعيد.
والناس في تلك العهود، وإن لم يكونوا ملتفتين إلى سر ذلك، إلا أننا عرفنا
باطلاعنا على تفاصيل التخطيط الإلهي. حيث عرفنا أم كلا شرطي اليوم الموعود، لم
يكونا متوفرين في تلك الفترة. فلم تكن البشرية على مستوى فم الأطروحة العادلة
الكاملة من ناحية، ولم تكن علة مستوى الإخلاص وقوة الإرادة المطلوب توفرها في
قيادة اليوم الموعود.
صفحة (302)
المرحلة الثانية:
فترة ما بعد الإسلام إلى بدء الغيبة الصغرى... حيث كانت البشرية قد
تلقت عن الله عز وجل أطروحتها العادلة الكاملة. وبذلك توفر أحد الشرطين
السابقين.
إلا أن معنى الانتظار لم يكن يختلف – مع ذلك – اختلافاً جوهرياً عما سبق. بمعنى
أن الأمل في ذلك الحين لم يكن منعقداً على حدوث اليوم الموعود بغتة وفي أي وقت.
بل كان المفهوم هو تحققه في المستقبل البعيد أيضاً. غاية الفرق عن المرحلة
السابقة، هو إحراز المسلمين: أن اليوم الموعود سوف يكون طبقاً لأطروحتهم
ودينهم، دون غيره.
وهذا واضح جداً، لو لاحظنا طرق التبليغ عن ذلك اليوم من قبل النبي (ص) والأئمة
المعصومين (ع) بعده. أما بالنسبة إلى النبي (ص) فيكفينا اخباراته عن المهدي (ع)
وأنه من ولده وعترته وأنه من ذرية فاطمة عليه السلام، وأنه يوجد فيملأ الأرض
قسطاً وعدلاً، وأنه من ولد الحسين (ع) وإن صفته كذا وكذا... إذن فقائد اليوم
الموعود ليس هو شخص النبي (ص)، ولن يقوم النبي (ص) بهذه المهمة الكبرى، خلال
حياته. كما عرفنا فلسفة ذلك فيما سبق.
إذن فالانتظار في عهد النبي (ص) كان مقترناً باليقين بعدم حدوثه الفوري في ذلك
الحين.
ويبقى الانتظار في عصر الأئمة عليهم السلام، حاملاً لنفس هذا المفهوم. ويمكن أن
نستفيد ذلك من عدة أشكال من الأحاديث التي كانوا عليهم السلام يعلنون بها فكرة
المهدي (ع) أمام الناس.
كقولهم (ع) أن المهدي هو السابع من ولد الخامس منهم(1) أو قول
الإمام الباقر عليه السلام، والله ما أنا بصاحبكم. قال الراوي: فمن صاحبنا؟
قال: انظروا من تخفي على الناس ولادته فهو صاحبكم(2). فهو إذ ينفي
عن نفسه أنه المهدي (ع) نعرف أن اليوم الموعود لن يتحقق ما دام في الحياة على
أقل تقدير.
________________________
(1) أنظر مثلاً منتخب الأثر ص 212 .
(2)
أنظر
إكمال الديم المخطوط.
صفحة(303)
وكقولهم: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام ولا علم، يبرأ بعضكم من
بعض... الحديث(1). إذن فما دام أئمة الهدى عليهم السلام معروفين
ومتصلين بالناس، فالمهدي غير موجود، ومن ثم فهو لن يقوم بالسيف لإنجاز اليوم
الموعود.
وكذلك إذا لاحظنا أخبار التمحيص، التي تنفي الظهور قبل مرور الناس بهذا
القانون. كقوله (ع): إن هذا الأمر ريأتيكم إلا بعد يأس. ولا والله حتى تميزوا.
ولا والله حتى تمحصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.
وقد سبق. إذن فاليوم الموعود لن يتحقق ما دام الناس غير ممحصين.
وكذلك إذا لاحظنا الأخبار الدالة على حدوث علامات الظهور، مما لم يتحقق في عصر
الأئمة (ع) السابقين، كالصيحة والخسف، وغيرها مما سيأتي. فإنه ما لم توجد هذه
العلامات، لايظهر المهدي (ع)، على ما سوف نوضحه في القسم الثالث من هذا
التاريخ.
إذن، فالمسلمون في زمن النبي (ص) والأئمة (ع) لم يكونوا ينتظرون ظهور المهدي
(ع) على الفور، وإن كانوا قد بلغوا بشكل أكيد وشديد عن ظهوره في مستقبل الزمان.
أقول: هذا من الناحية النظرية صحيح. إلا أننا نجد من الناحية العملية، أن هذه
الفكرة صادقة في زمن النبي (ص). وأما في زمن الأئمة (ع)، فلا تخلو هذه الفكرة
من إشكال.
فإننا نجد أن توقع ظهور المهدي (ع) في ذلك الزمن كان كبيراً. سواء في ذلك
القواعد الشعبية الامامية، أو غيرهم. أم غير الامامين فواضح طبقاً لفهمهم لفكرة
المهدي (ع). إذ أن ولادته وقيامه بدولة الحق، ممكن بعد النبي (ص) مباشرة
فصاعداً.
وأما الاماميون، فقد دلت الأخبار على وجود هذا التوقع فيهم... بما فيها أخبار
التمحيص نفسها حيث يقول الإمام (ع) فيها: إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد
يأس... أو يقول:
هيهات هيهات... لا يكون الذين تمدون إليه أعناقكم حتى تمحصوا(2) .
_________________
(1) نفس المصدر.
(2) أنظر غيبة النعماني ص
صفحة (304)
وروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما تستعجلون بخروج
القائم، فوالله ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه إلا الجشب... الحديث(1).
وروي عن إبراهيم بن هليل قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك، مات أبي
على هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد ترى. أموت ولا تحبرني بشيء؟! فقال: يا
أبا إسحاق، أنت تعجل! فقلت: أي والله أعجل وما لي أعجل، وقد بلغت من السن ما
قد ترى؟ فقال: يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتى تميزوا وتمحصوا وحتى لا يبقى فيكم
إلا الأقل... الحديث(2).
وهذه الأخبار واضحة جداً في اتوقع والانتظار الفوري، حتى أن أبا إسحاق لم يتصور
أن يكبر سنه ولما يظهر المهدي بعد.
وكذلك إذا نظرنا إلى الأخبار الدالة على وجود توقعات من الأئة (ع) بأشخاصهم بأن
يقوموا بدور المهدي (ع). كالخبر السابق عن الإمام الباقر (ع):والله ما أنا
بصاحبكم... الحديث. وما روي عن حمران بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) فقلت له:
أنت القائم؟... الحديث(3). وفي حديث آخر عنه قال قلت لأبي جعفر
الباقر عليه السلام: جعلت فداك أني قد دخلت المدينة وفي حقوقي هميان فيه ألف
دينار، وقد أعطيت الله عهداً أن أنفقها ببابك ديناراً ديناراً أو تجيبني فيما
أسألك عنه. فقال: يا حمران سل تجب ولاتبعض دنانيرك. فقلت: سألتك بقرابتك من
رسول الله صلى الله عليه وآلة، أنت صاحب هذا الأمر والقائم به. قال: لا. قلت:
فمن هو بأبي أنت وأمي. فقال: ذاك المشرب حمرة... الحديث(4). وفي
حديث آخر(5) عن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلام: أنت
صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر ولكني لست بالذي أملؤها عدلاً كما
ملئت جوراً. وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني. وإن القائم هو الذي إذا خرج
كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان... الحديث.
الى أحاديث أخرى من هذا القبيل.
_____________________
(1) غيبة النعماني ص 122.(2)
نفس المصدر ص 111. (3)
غيبة النعماني ص 115.
(4)
المصدر ص 144 – 155.(5)
إعلام
الورى ص 407.
صفحة ( 305)
وكذلك إذا نظرنا إلى الخبر القائل: سئل أبو عبد الله عليه السلام: هل ولد
القائم؟ فقال: لا. ولو أدركته لخدمته أيام حياتي(1).
إذا نظرنا إلى هذه الأخبار،نجد مفهوم الانتظار، ومزيد الاهتمام بظهور
المهدي(ع)... ناشئاً من سبب رئيسي واحد، هو إبهام فكرة المهدي في أذهانهم
والجهل بتفاصيلها، حتى أن حمران بن أعين والريان بن صلت، وهما من أحلة أصحاب
الأئمة (ع) كانا لا يزالان لا يعرفان من هو القائم على التعيين، وقد مضى من صدر
الإسلام أكثر من مئة سنة.
وقد كانت لهذه الأحاديث وغيرها مما صدر من الإيضاحات والتفاصيل عن هذه الفكرة،
من الأئمة المعصومين عليهم السلام، أكبر الأثر في جلاء الفكرة لدى قواعدهم
الشعبية وارتفاع ابهامها تدريجاً، حتة اننا نرى الآن بوضوح طبقاً للتخطيط
الإلهي أنه لم يكن بالإمكان القيام بدور المهدي (ع) في ذلك العصر، لعدم توفر
أحد شرائط الظهور. ومن ثم لم يكن المهدي (ع) مولوداً، ولم يكن أحد من الأئمة
السابقين هو المهدي القائم بالأمر بأي حال.
وقد كان لهذا الإبهام، في غير الأوساط الامامية، أثراً سلبياً أحياناً، إذ فسح
المجال للعديدن في أن يستغلوا تبشير النبي (ص) بالمهدي (ع) فيدّعون المهدوية
لأنفسهم. ولا ننسى بهذا الصدد أن الرشيد العباسي لقب ولده بالمهدي، عسى أن
يتوهم الناس أنه المهدي المنتظر.
وقد سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(2)، كيف أن جماعة القراطمة في
الشرق الأدنى وجمعاً غفيراً في الشمال الإفريقي قد آمنوا بمهدوية محمد بن عبيد
الله العلوي جد الفاطميين، الذين حكموا مصر بعد ذلك.
_____________________
(1) المصدر ص 129.
(2) أنظر ص 353 وما بعدها.
صفحة (306)
المرحلة الثالثة:
- لعصور الانتظار-: عصر الغيبة الصغرى، لمن يؤمن بها، وهم القواعد الشعبية
الامامية.
وفيها – كما عرفنا في تاريخها – كان الإمام المهدي (ع) موجوداً يقود قواعده
الشعبية في الخفاء. ولاشك أن الناس كانوا ينتظرون ظهوره في أي وقت. باعتبار ما
يحسونه من ظلم ومطاردة وتعسف من قبل الحاكمين. وهم يعلمون علم اليقين بوجوده
وإطلاعه على الأوضاع الشاذة التي يعيشها المجتمع، ويعلمون أنه المذخور لإزالة
الظلم من العالم كله غافلين – بطبيعة الحال – عن اقتصاء التخطيط الإلهي تأجيل
ذلك، لعدم توفر أحد شرائط اليوم الموعود.
ولو دققنا النظر، لم نجد في رفع هذا الجو الفكري من الناس، مصلحة. بل كانت
المصلحة تقتضي إيكالهم إلى انتظارهم التلقائي الارتكازي، وعدم التعرض إلى
تصحيحه أو تكذيبه. لأنه على أي حال، يزيد من الربط العاطفي للقواعد الشعبية
المهدوية، بإمامها وقائدها. لوضوح أن الأمل فيه كلما كان أقوى كان هذا الارتباط
أبلغ وأكبر.
بل أن هناك من الأخبار ما يدل على أن الإمام المهدي (ع) نفسه كان يذكي هذه
العاطفة ويؤكد قرب الظهور. وقد ذكرناها في تاريخ الغيبة الصغرى وناقشناها(1).
وقد يخطر في الذهن: أنه كان يمكن للناس في تلك الفترة، أن يطلعوا على الخبار
الدالة على توقف ظهور المهدي (ع) على التمحيص، أو الأخبار الدالة على حدوث
علامات الظهور... لكي يعرفوا أن الظهور لم يكن ليقع في تلك الفترة، بعد وضوح أن
التمحيص لم يكن حاصلاً، والعلامات لم تكن حادثة.
ويمكن أن يناقش ذلك بعدة أحوبة، أوضحها: أن الفرد الاعتيادي يحتمل تحقق التمحيص
المطلوب، في عصره، كما يحتمل حدوث علامات الظهور في المستقبل القريب. ومن ثم
يحتمل أنه لم يبق بينه وبين الظهور إلا زمن قصير. وهذا الاحتمال كاف في إذكاء
أوراء الجو النفسي والفكري للانتظار.
ـــــــــــــ
(1) أنظر ص 548 وما بعدها.
صفحة (307)
المرحلة الرابعة:
فترة الغيبة الكبرى، التي لا زلنا نعيشها.
وقد قلنا أن الانتظار فيها يحمل معنى توقع الظهور، وقيام اليوم الموعود في أي
وقت وفي كل يوم. لكونه منوطاً بإرادة الله تعالى لاغير. كما ورد في بان المهدي
(ع) الذي أعلن به انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى، حيث قال: فلا ظهور إلا
بإذن الله تعالى ذكره(1). ولما ورد أنه يوم الظهور يحدث فجأة أو
بغتة، كلما سمعنا من مكاتبة المهدي (ع) للشيخ المفيد. وغيرها من الروايات التي
سوف نذكرها.
نعم يمكن أن تلاحظ أنه في فترة بدء الغيبة الكبرى، كان هناك من الدلائل على عدم
فورية الظهور، حيث نسمع من بيان انتهاء السفارة نفسه قوله عليه السلام: فقد
وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره. وذلك بعد طول الأمد
وقسوة القلوب... الحديث(2). وطول الأمد يستدعي مضي عدة سنوات، بل
عدة عشرات، لا بد من انتظار انتهائها، قبل توقع الظهور الفوري.
إلا أن مفهوم طول امد، يختلف باختلاف تصور الأفراد، ومقدار وعيهم العقلي
والثقافي والإيماني. فقد لا يحتاج حين يسمعه الفرد العادي لأول مرة أكثر من عدة
سنوات، وبخاصة من إناطة الظهرو بإذن الله تعالى مع ما يراه الفرد من قسوة
القلوب فعلاً وامتلاء الأرض جوراً. فكان في الإمكان – بحسب الجو النفسي السائد
يومئذ – أن يبدأ مفهوم الانتظار الفوري بعد عدة سنوات من تاريخ هذا البيان. ولم
يكن أهل ذلك العصر بحاجة إلى أن يدركوا أن المراد من طول الأمد ما يزيد على
الألف عام بقليل أو بكثير، كما ندركه الآن.
فإن قال قائل: إن الانتظار للظهور الفوري، ينافي ما جعل من علامات وشرائط
للييوم الموعود، فإنه لا يكون إلا عند حصول تلك الأمور. فالانتظار للظهور
الفوري إنما يصح بعد حصولها، وأنا قبل ذلك فينبغي أن يعود مفهوم الانتظار إلى
الشكل الذي قلناه في صدر الإسلام من العلم بحصول اليوم الموعود مع اليقين بعدم
الظهور الفوري.
ـــــــــــــــ
(1) أنظر تاريخ الغيبة الصغرى ص 634، وغيبة الشيخ
الطوسي ص 243.
(2)
نفس
المصدرين والصفحتين.
صفحة (308)
وهذا الإشكال مشابه لما أوردناه في المرحلة الثالثة: عصر الغيبة الصغرى. وجوابه
نفس الجواب، وملخصه: أن العلامات يحتمل وقوعها في أي وقت ويحتمل
أن يتبعها ظهور المهدي (ع) بزمان قصير. وأما شرائط الظهور، فيحتمل اكتمالها
ونجازها في أي وقت أيضاً. وقلنا بأن وجود هذا الاحتمال في نفس الفرد كاف في
إيجاد الجو النفسي للانتظار الفوري.
فإن قال قائل: بأن ما عرفناه شرطاً رئيسياً للظهور، مما هو غير متحقق لحد الان،
هو حصول التمحيص والامتحان للناس، ونحن نجد بالوجدان أن عدداً كبيراً من الناس
إن لم يكن جميعهم أو أكثرهم، غير ممحصين، ولاتصل نتائج اختباراتهم إلى نهايتها.
قلنا: أنه يمكن الجواب على ذلك بوجهين:
الوجه الأول:
إن هذا الكلام يتضمن جهلاً بمعنى التمحيص والاختبار، فإن المراد منه ليس هو
تمحيص الأفراد كأفراد خلال أعماهم القصيرة، لكي نتوقع أن يصل كل فرد خلال حياته
إلى النتائج النهائية للتمحيص.
بل المراد تمحيص الأمة أو البشرية في أمد طويل، بشكل منتج لتمحيص الأفراد، في
نهابة المطاف. ويتم ذلك عن طريق ما نسميه " بقانون الترابط بين الأجيال " فإن
كل جيل سابق يوصل ما يحمله من مستوى فكري وثقافي إلى الجيل الذي يليه. ويكون
على الجيل الآخر، أن يأخذ بهذا المستوى قدماً إلى الأمام. ثم أنه يعطي نتائجه
إلى الجيل الذي بعده وهكذا...
وكذلك الحال بالنسبة إلى نتائج التمحيص، فإن كل جيل يوصل إلى الجيل الذي يليه،
ما يحمله من مستوى في الإيمان والإخلاص... فيصبح الجيل الجديد، قد وصل بالتلقين
إلى نفس الدرجة – تقريباً – من التمحيص التي وصلها الجيل السابق. ثم أن الجيل
الآخر بدوره سيمر بتجارب وسيقوم بأعمال معينة وسيصادف ظروف الظلم والإغراء،
فيتقدم في سلم التمحيص درجة أخرى، وهذكا.
وبقانون تلازم الأجيالن سيأتي على الأمة زمان، يكون الجيل الذي فيها، قد انتج
التمحيص الإلهي فيه نتيجته المطلوبة. حيث ينقسم المجتمع إلى قسمين منفصلين: إلى
من فشل في التمحيص فاختار طريق الضلال محظاَ. وهم الأكثرالذين يملأون الأرض
جوراً وظلماً... وإلى من نجح فيه فاختار طريق الهداية والإخلاص محضاً. وبوجود
هذه المجموعة يتحقق شرط الظهور.
صفحة (309)
إذن، فكيف يمكننا أن ندعي العلم بعدم تمحيص أكثر الناس، كما قلناه في السؤال.
مع أن النتيجة المطلوبة حاصل في الأعم الأغلب منهم. وهذا واضح بالنسبة إلى كل
البشر الكفرة والمنحرفين، فإن التمحيص قد أنتج تطرفهم إلى جهة لضلال. كما أنه
واضح بالنسبة إلى عدد من المؤمنين المخلصين، حيث تطرفوا إلى جهة الهدى
والإيمان. هذه هي نتيجة التمحيص.
نعم، قد تتعلق الإرداة الإلهية، بتأكيد التمحيص وتشديده أكثر مما هو عليه الآن،
متوخية تعميق إخلاص المخلصين، لكي يكونوا بحق على المستوى المطلوب لقيادة
العالم في اليوم الموعود.
وعلى أي حال، فيبقى شرط الظهور محتمل الإنجاز في أي وقت، فلا يكون منافياً مع
مفهوم الانتظار الفوري.
الوجه الثاني: إن التمحيص الدقيق المأخوذ في التخطيط الإلهي، لايجب أن ينتج
نتيجة واضحة فعلية كاملة، بالنسبة إلى كل البشر وإنما اللازم هو ان يصل إلى
هدفه، وهو إيجاد شرط الظهور.
بيان ذلك: أن التمحيص يكون على مستويين:
المستوى الأول:
ما يكون من موقف كل فرد تجاه مصالحه وشهواته. وهذا التمحيص موجود بوجود البشرية
ووجود مفاهيم الحق والعدل والمعلنة بين الناس. ولا ينقطع إلا بانتهاء البشرية.
لايختلف في ذلك عصر الغيبة عن عصر الظهور. فإن عصر الظهور ينتج إيضاح الحق
وسيطرته على العالم. ولكنه لايقوم بتبديل الغرائز والشهوات.
المستوى الثاني: ما يكن من قبل الفرد تجاه تيارات الظلم واضطهاد الظالمين. وهو
تمحيص خاص بما قبل الظهور، لعدم وجود الظلم والظالمين بعده. وهذا هو العنصر
المهم الذي أسسه التخطيط الإلهي لتحقيق شرط الظهور.
صفحة (310)
وشرط الظهور لو كان هو حصول النتيجة في كل البشرن لكان حصولها
ضرورياً قبل الظهور، كما قال السائل... ولكن شرط الظهور ليس بهذه السعة، وإنما
هو حصول عدد من ذوي الإخلاص القوي والإرادة الماضية، بمقدار كاف لزو العالم
والسيطرة على البشرية بأطروحة الحق.
وحينما يحصل هذا المقدار من الناس، تكون نتيجة التمحيص الكاملة، قد تمخضت
بالنسبة إليهم، بإحرازهم درجة الإخلاص العليا. كما تكون قد تمخضت بالنسبة إلى
آخرين في التطرف نحو الإنحراف والفساد.
وأما البشر الآخرون، فلا مانع أن يصلوا إلى بعض درجات التمحيص ويقفوا. وتبقى
الدرجات العليا من مواقفهم وردود فعلهم غامضة غبر ممحصة. وهذا كما هو ثابت
بالنسبة إلى أغلب البشر قبل نهايات الغيبة، كذلك يمكن أن يكون ثابتاً بالنسبة
إلى بعضهم عند أول الظهور أيضاً.
ولكننا – بهذا الصدد – يجب أن نتذكر الدرجات الثلاث، للإخلاص، التي قلناها...
ولكها نتيجة للتمحيص وإن اختلفت مراتبها ومداليلها. وما قلناه قبل أسطر وإن كان
صحيحاً في درجة الإخلاص العليا، فإنه لايحصل إلا في عدد معين البشر، قد تشكل
أكثر البشر في الجيل المعاصر للظهور. ويكون الظهور بنفسه ظرفاً جديداً تتفتح
فيه مواهب العديد من الناس على النحو الموجه المطلوب. على ما سوف نسمع في
التاريخ القادم.
وعلى أي حال، فمن المحتمل على الدوام وفي أي وقت، أن يكون العدد الطافي لغزو
العالم قد تحقق، وإن شرط الظهور قد توفر. فيكون الظهور عبلا هذا التقدير –
فورياً أو قريباً جداً. واحتمال تحقق الشرط كاف في احتمل فورية الظهور. ومعه
يكون مفهوم الانتظار الفوري، موجوداً خلال عصر الغيبة الكبرى.
* * *
صفحة (311)
الجهة الثالثة:
من التكاليف المطلوبة في عصر الغيبة الكبرى: الإلتزام بالتعاليم الإسلامية
الحقة النافذة المفعول فيما قبل الظهور.
وهذا من واضحات الشريعة، فإن مقتضى شمول تعاليمها وعمومها لكل الأجيال،وجوب
إطاعتها وتطبيقها على واقع الحياة في كل الأجيال. سواء ما كان على مستوى
العقائد والمفاهيم، لأو ما كان على مستوى الأحكام.
ويقابل هذا الوضوح احتمالان رئيسيان:
الاحتمال الأول:
أن ينجرف الفرد مع النيارات المعادية للإسلام، ويتبع عقائدها وأحكامها، ويعبرها
نافذة عليه، ويدع أوامر الإسلام ونواهيه، بل وعقائده في سبيلها.
وهذا النحو من السلوك واضح الفساد من وجهة نظر الإسلام. وحسبنا منه أنه مستلزم
للعصيان الإسلامي والرسوب في التمحيص الإلهي.
ومعنى فساد هذا الوجه، هو أن العقائد الوحيدة الصحيحة والأحكام الوحيد النافذة
في كل العصور، هي عقائد الإسلام وأحكامه. وأما ما يغزو المجتمع المسلم من عقائد
غريبة وأحكام وضعية، فلا تعتبر حقاً ولا واجبة الامتثال.
الاحتمال الثاني:
أن المهدي بعد ظهوره – على ما سنعرف في التاريخ القادم – سوف يصدر قوانين
جديدة، ويعطي للإسلام تفاصيل وتطبيقات جديدة. فقد يكون من المحتمل أن تكون تلك
الأحكام والقوانين سارية المفعول خلال الغيبة الكبرى أيضاً. مما ينتج أن يكون
الاقتصار على امتثال الأحكام السابقة على الظهور، غير كافية.
إلا أن هذا الاحتمال غير موجود البتة: لليقين بأمرين:
الأمر الأول:
إن أحكام ما بعد الظهور لن تكون ذات أثر (رجعي) بحيث تشمل الزمن السابق عليها.
فإن الإمام المهدي (ع) إنما يصدر قوانينه الجديدة بناء على مصالح وأسباب تتحقق
بعد الظهور، وليس لها في عصر الغيبة الكبرى عين ولا أثر.
صفحة (312)
|