النقطة الثانية:

إذ يعتبر الفرد المسلم من يحبه مطاعاً في أقواله، واجب الامتثال في أحكامه. لأن أحكامه هي أحكام الإسلام وأقواله تطبيقات لما يرضي الله عز وجل. إذن، فلا يمكن أن يتحقق السلوك الصالح بدون ذلك.

فانظر إلى الجانب العقائدي، كيف يعيش في الحياة متمثلاً في السلوك الصالح ... وإنما حصل التعرض إلى الجانب العقائدي في الأخبار، لا باعتبار اختلاف العقيدة الإسلامية في زمن المهدي (ع). إذ من المعلوم أنه عليه السلام لا يغيّر العقائد والأحكام الرئيسية في الإسلام. وإنما يتصرف فيما دون ذلك.

وعلى أي حال، فنحن الآن غير مسؤولين عن أحكام الهدي (ع) بل يكفينا الاعتقاد بما عرفناه من الإسلام، وإيكال ما يحدث بعد الظهور إلى وقته.

ومن هنا نعرف نعرف أنه لماذا عبر في الخبر عن الأحكام الحالية بالأمر الأول أو ما في اليد، وذلك: بمقايستها إلى أحكام ما بعد الظهور. وكذلك التعبير: بمن كنت تحب ومن كنت تبغض. فإنه بمقايسة من يجب أأن يحبه ويطيعه من أولي الأمر الموجودين بعد الظهور.

وأخرج الكليني في الكافي(1) والصدوق في إكمال الدين(2) والنعماني في الغيبة. عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، حين يسأله الرواي عن تكليفه في زمان الغيبة(3) حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال وتنتشر الشبهات. قال الرواي: فكيف نصنع. قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة. فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس. قلت: نعم. قال: زالله لأمرنا أبين من هذه الشمس.
ــــــــــ
(1) أنظر المصدر المخطوط. (2)  أنظر المصدر المخطوط. (3)  أنظر ص 77.

صفحة (315)

فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة (ع) الذين هم البقاء الأمثل للنبوة والإسلام … باعتبار وضوح ما هم عليه من الحق ، كوضوح الشمس المشرقة ، وقيام الحجة فيه على الخلق . فلا بد من التمسك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى ، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف .

ولئن كان هذا الحديث مما لا يومن به إلا القواعد الشعبية الامامية ، فإن الأخبار المتقدمة تعمهم وغيرهم من أبناء الإسلام .

*     *     *

الجهة الرابعة : هل المطلوب خلال الغيبة الكبرى ، إتخاذ مسلك السلبية والعزلة ، أو المبادرة إلى الجهاد.

ويتم الكلام في هذه الجهة ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى : في محاولة فهم العنوان :

دلنا الوجدان والأخبار الخاصة والقواعد العامة ، على ما سمعنا ، على أن زمان الغيبة الكبرى ، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد . فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث ، وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع . أو أن وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعال ، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان .

دلت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عز من قائل : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (1). وقوله : ﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين (2) .

ودلت الغالبية العظمى من أخبار التنبؤ بالمستقبل على وجوب السلبية والانعزال . بحيث استغرقت كل أخبار العامة تقريباً ، وأغلب أخبار الخاصة . ولم يكد يوجد من الروايات الآمرة بالمبادرة إلى الجهاد والأخذ بزمام الإصلاح ، إلا النزر القليل . وسنعرض لهذه الأخبار فيما يلي من البحث .
ــــــــــــــــــ
(1)  
الأنفال : 8 / 60. (2)    التوبة 9 / 120 .

صفحة (316)

فأي الوظيفتين تقتضيها القواعد الإسلامية العامة . وهل تقتضي إحداهما على التعيين ، أو تقتضي على الأمرين ، باختلاف الحالات . وكيف يمكن فهم هذه الاخبار على ضوء ذلك . هذا لا بد من بحثه ابتداء بالقواعد العامة ، وانتهاء بالأخبار .

النقطة الثانية : فيما تقتضيه القواعد العامة :

ويمكن أن نعرض ذلك ، ضمن جانبين :

الجانب الأول :

في الأحكام الإسلامية ، على المستوى الفقهي للعمل الإجتماعي أو العزلة .

ينقسم العمل الإجتماعي الإسلامي المقصود به الهداية والإصلاح إلى وجهتين رئيسيتين : أولاهما : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وثانيتهما : الجهاد أو الدعوة الإسلامية . ولكل منهما مجاله الخاص وشرائطهما المعينة .

فالجهاد يتضمن في مفهومه الواعي ، العمل على ترسيخ أصل العقيدة الإسلامية ، إما بنشرها ابتداءً أو الوقوف إلى جانبها دفاعاً ... بأعي عمل حاول الفرد أو المجتمع الوصول إلى هذه النتائج ... سواء كان عملاً سليماً أو حربياً . وإن كان أوضح أفراده وأكثرها عمقاًً ، هو الصدام المسلح بين المسلمين والآخرين .

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فمجاله هو الإطار الإصلاحي للمجتمع المسلم ، مع انحفاظ أصل عقيدته. ومحاولة حفظه عن الإنحراف والتفكك وشيوع الفاحشة ونحو ذلك .

شرائطهما :

وشرائط الامر المعروف والنهي عن المنكر ، عديدة ، فيما ذكر الفقهاء ، تندرج في أمرين رئيسيين :

الأمر الأول :

العلم بالمعروف والمنكر ، فلو لم يكن الفرد عالماً بالحكم الشرعي الإسلامي ، أو لم يكن محرزاً بأن فعل الشخص الآخر معصية للحكم ... لم تكن هذه الوظيفة الإسلامية واجبة .

الصفحة ( 317)

الأمر الثاني :

احتمال التأُير في الفرد الآخر . فلو لم يكن يحتمل أن يكون لقوله أثر ، لم يجب القيام بالأمر والنهي ، فضلاً عما إذا احتمل قيام الآخر بالمعارضة والمجابهة أو إيقاع الضرر البليغ .

ولذلك ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الأمة جميعاً . فقال : لا . فقيل له : ولم ؟ قال : إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر . لا على الضعيف الذي لا يهتدي إلى أي من أي . يقول من الحق إلى الباطل .والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل . قوله : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . فهذا خاص غير عام (1) .

وكذلك قوله عليه السلام : إنما يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر ، مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم ، فأما صاحب سوط أو سيف ، فلا (2) .

وأما الجهاد فغير مشروط بهذه الشرائط . كيف وإن المفروض فيه التضحية ببذلك النفس والنفيس في سبيل الله تعالى ومن أجل المصالح الإسلامية العليا .وقد أكد القرآن على ذلك في العديد من آياته ،على ما سمعنا قبل قليل ... وفي قوله تعالى : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن .ومن أوفى بعهده من الله . فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم . التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله ، وبشر المؤمنين (3) .

إذن ، فالجهاد فريضة كبرى لنشر الدعوة الالهية ، داخلة في التخطيط الالهي لهداية الناس ، فيما قبل الإسلام وفي الإسلام ." في التوراة والانجيل والقرآن ". وإنما يقوم به على طول الخط ، أولئك الصفوة ذوي الإخلاص الممحَّص والإيمان الرفيع ... " التائبون العابدون الحامدون الراكعون الساجدون ... " .
ـــــــــــ
(1)  
وسائل الشيعة جـ 2 ص 533 . (2)   المصدر ص 534 . (3)   التوبة : 9 / 111 ـ 112 .

الصفحة (318)

وقد ورد عن رسول الله (ص)(1) أنه قال في كلام له : فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه . أن الله أغنى أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها " أي بأسلحتها " .

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، أنه قال : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتح الله لخاصة أوليائه ... إلى أن قال : هو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجُنته الوثيقة . فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء ، وديِّث بالصغار والقماءة ، وضرب على قلبه بالأسداد ، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ومنع النصف ... الحديث .

وعن الصادق أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال : إن الله عز وجل بعث رسوله بالإٍسلام إلى الناس عشر سنين ، فأبوا أن يقبلوا ، حتى أمره بالقتال . فالخير في السيف وتحت السيف . والأمر يعود كما بدأ " يعني عند ظهور المهدي عليه السلام " .

إلا أن الجهاد على أهميته الكبرى في الإسلام ، مشروط بشرطين : الأول : خاص بجهاد الدعوة المتعلق بنشر الإسلام في غير المسلمين . وهو تعلق أمر الولي العصوم به ، كالنبي (ص) أو أحد المعصومين بعده ومنهم المهدي (ع) نفسه .

بخلاف جهاد الدفاع فإنه غير مشروط بذلك . بل يجب عند الحاجة على كل حال .

ولا يفرق في هذا الحكم بين أن يكون الجهاد دموياً أو لم يكن ... بل كان من قبيل الجهاد التثقيفي الإسلامي .

الشرط الثاني : احتمال التأثير ، والوصول إلى النتيجة ،ولو في المدى البعيد .

فلو لم يحتمل الفرد أو المجتمع المجاهد الوصول إلى أي نتيجة أصلاً ... لم يجب الجهاد .
ـــــــــــــــــــــ

 (1)
  
انظر هذا الحديث وما بعده في الوسائل جـ 2 ص 469 .

الصفحة (319)

وهذا الشرط واضح في الجهاد الدموي ، فإنه لا يكون واجباً مع قصور العدة والعدد . قال الله تعالى : ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً . فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ، بإذن الله ، والله مع الصابرين (1). وأما إذا كان الجيش المعادي أكثر من ضعف أفراد الجيش المسلم فلا يجب الجهاد ، باعتبار أن احتمال النصر يكون ضئيلاً .

وأما الجهاد العقائدي التثقيفي ، فهو وإن كان مشروطاً باحتمال التأثير أيضاً ، فإنه إن لم يكن التأثير محتملاً لم يكن هذا الجهاد واجباً ، إلا أن هذا إنما يتصور في الفرد الواحد ، وأما في التثقيف العام للمجتمع ، فهو يقيني التأثير في الجملة ، على عدد من الأفراد قليل أو كثير . فيكون واجباً ، مع توفر شرطه الأول .

فهذه هي وظائف العمل الإجتماعي في الإسلام من الناحية التشريعية الفقهية .

نتائجها :

نستطيع الوصول على ضوء ذلك ، إلى عدة فوائد ونتائج كبيرة . متمثلة في عدة أمور :

الأمر الأول :

إن الجهاد على طول الخط ، في تاريخ البشرية ، مقترون في منطق الدعوة  الالهية ، بذوي الإخلاص العالي الممحص ، فإنه ( باب فتحه الله لأوليائه ). لا بمعنى اختصاص وجوبه بهم ، بل بمعنى أن الله تعالى لا يوجد شرائطه في العالم ، إلا في ظرف وجودهم ، بحسب تخطيطه الكبير . فإن مهمة غزو العالم كله ، ونشر العدل المحض فيه ، مهمة كبرى لا تقوم على اكتاف أحد سواهم ، وإلا كان مهدداً بخطر الفشل والدمار .

ولذا حارب النبي (ص) أعداءه وانتصر ،واستطاع أن يبلغ بالفتح الإسلامي مدى بعيداً في الأرض .ولهذا ـ ايضاًـ فشل الفتح الإسلامي حين فقد خصائصه الرئيسية وتجرد الشعب المسلم عما يجب أن يتحلى به من صفات . وبتلك الخصائص سوف يحارب المهدي (ع) وينتصر على كل العالم .
ــــــــــــــ

 (1)
  
الأنفال : 8 / 66 .

صفحة (320)

ولكن ينبغي أن نحتفظ بفرق بين أصحاب النبي (ص) وأصحاب المهدي (ع) ، وقد أشرنا إليه فيما سبق : وهو : أن النبي (ص) بُعث في شعب خام غير ممحص الإخلاص قبل ذلك على الإطلاق ولا مر بأي تجربة لنشر العدل ولم يكن همه غير السلب والنهب من القبائل المجاورة . ومن ثم كان المندفعون إلى الجهاد بين يديه (ص) ـ فيما عدا النوادر ـ يمثلون الوهج العاطفي الإيماني وهيمنة القيادة النبوية عليهم ، أكثر مما يمثلون استيعاب القضية الإسلامية من جميع أطرافها وخصائصها .

فلم يكونوا في الأعم الأغلب ، ممحصين ولا واعين ، بالدرجة المطلوبة لغزو العالم كله ... ولو كانوا على هذا المستوى لما بقي العالم إلى الآن يرزخ تحت نير الاستعباد . ولكان النبي (ص) بنفسه هو المهدي الموعود ... كما أشرنا إليه في التخطط الالهي .

ومن ثم رأينا ان هيمنة القيادة النبوية ، حين انحسرت عن المجتمع ، بدأ الوهج العاطفي بالخمود التدريجي . وإن كان قد بقي له من الزخم الثوري ما يبقيه مائتي عام أخرى ، ينطلق من خلاله إلى منطقة ضخمة من العالم . إلا أن الفتح الإسلامي تحول تدريجياً إلى مكسب تجاري (1) ، وفشل عن التقدم في نهاية المطاف .

وهذه النتائج المؤسفة ، يستحيل التوصل إليها ـ عادة ـ لو كان الجيش النبوي ممحصاً وواعياً ، بحسب اتجاهات النفس البشرية وقوانين ترابط الأجيال .

والسر في ذلك ما سبق أن عرفناه ، من أن البشرية عند نزول الإسلام ، كانت مهيئة للشرط الأول من شروط عالمية الدعوة الالهية ... دون الشرط الثاني ، وهو وجود العدد الكافي من ذوي الإخلاص الممحص .

وأما المهدي (ع) فسوف يوجد الله تعالى هذا الشرط في أصحابه ، بعد أن تكون البشرية قد مرت بالظروف القاسية التي تشارك في إيجاد هذا الشرط الكبير .

ومن ثم سوف يستطيع تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة على العالم بأسره .
ـــــــــــــــــ
(1) فصلنا القول في ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى ص 94 وما بعدها .

صفحة (321)

فإن قال قائل : يلزم من ذلك بأن أصحاب المهدي (ع) أفضل من أصحاب النبي (ص) .قلنا : نعم ، الأمر كذلك على الأعم الأغلب . ولا حرج في ذلك . فإن أصحاب المهدي (ع) هم أصحاب للنبي (ص) ومحاربين في سبيل دين النبي (ص) وعدله . وإنما القصور في البشرية التي لم تكن مهيئة لنشر العدل العالمي قبل أن ينتج التخطيط الالهي نتيجته المطلوبة ، وهو إبجاد الشرط الأخير من شرائط الظهور .

الأمر الثاني :

إن الجهاد منوط على طول الخط ... بوجود القائد الكبير الذي له قابلية غزو العالم ونشر العدل فيه . فما لم يتحقق ذلك لا يكون الجهاد واجباً . إلا فيما يكون من جهاد الدفاع الذي لا يكون واجباً على الأمة وإن لم تكون ممحصة ولم تكن لها قيادة .

إلا أن هذا من قبيل الاستثناء لأجل الحفاظ على بيضة الإسلام وأصل وجوده . وقد أثبتت غالب حوادث التاريخ فشل الأمة الإسلامية في حروف الدفاع حال فقدانها للقيادة والوعي . ومن هنا وصل الأمر بنا إلى ما وصل إليه من سيطرة الأعداء ، حتى غزينا في عقر دارنا وأخذ منا طعامنا وشرابنا و وفقد منا استقرارنا وأمننا .

وعلى أي حالة ، ففيما عدا ذلك ، يكون مقتضى القاعدة العامة ، هو إناطة وجوب الجهاد بوجود القائد الذي له أهلية غزو العالم ونشر العدل فيه . ومن هنا كان وجوب الجهاد حاصلاً في عصر النبي (ص) ، وكان مهدداً بالانقطاع التام بعده ، لولا أن القواد المسلمين ، كانوا يحاربون بالوهج العاطفي الذي زرعه النبي (ص) . ومن ثم لم يكن للفتح الإسلامي قابلية الاستمرار أكثر من زمان الوهج ، مع إنعدام التمحيص والقيادة .

وهذه القيادة الكبرى ، هي التي سوف تتجسد في شخص المهدي (ع) ، فيبدأ نشر أطروحته في العالم عن طريق الجهاد ، حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .

الأمر الثالث :

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير منوط بوجود القيادة الكبرى ولا الإخلاص الممحَّص ... بل هو مشروع بشكل يشمل الحالات الأخرى .

صفحة (322)

حيث نرى أنه لا يحتاج القيام بهذه المهمة الإسلامية إلا إلى معرفة الحكم الإسلامي مع احتمال إطاعة العاصي وتأثره بالقول . وأما حاجته إلى تضحية مضاعفة أو وعي عالٍ أو إخلاص ممحص ، فغير موجودة ... وهذا واضح .

بل أننا نستطيع أن نفهم من الشرط الذي أنيط به ، وهو توقف وجوبه على عدم الخوف واحتمال الضرر ... وقد سمعنا قول الإمام الصادق عليه السلام : وأما صحاب سوط أو سيف فلا . إن توقفه على ذلك مأخوذ خصيصاً بنظر الاعتبار لكي يواكب النفوس غير الواعية وغير الممحصة ويكون شاملاً لها ، حتى إذا ما  خافت الضرر ولم تستطع الصمود ، كان لها في الشريعة المبرر الكافي للانسحاب .

وبهذا يحرز التشريع الإسلامي نتيجتين متساندتين :

النتيجة الأولى :

إن عدداً مهماً من أفراد الأمة ، في عصر التمحيص والامتحان ، يجب عليهم القيام بهذه الوظيفة الإجتماعية الكبرى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سواء كان التمحيص قد أنتج فيهم الإخلاص العالي أو لم يكن . وبذلك يحرز الإسلام ـ على الصعيد التشريعي على الأقل ـ حفظ المجتمع المسلم من الإنحدار إلى مهاوي الرذيلة والضلال .

النتيجة الثانية :

إن هذا العدد من أفراد الأمة يكونون ـ بمقتضى قانون التمحيص نفسه ـ واقفين على المحك الأساسي للتمحيص ، من خلال قيامهم بهذه المهمة الإسلامية . فإن تركوها وأحجموا عنها ، فقد فشلوا في الامتحان . وإن قاموا بها أوجب ذلك لهم تكامل الخبرة والتدريب والتربية ، مما يسبب بدروه تحمل المسؤوليات الأكبر والأوسع ، ويضعهم على طريق الإخلاص الممحص والوعي ، في نهاية المطاف .

صفحة (323)

الأمر الرابع :

إن نتائج ترك الجهاد أهم وأوسع من نتائج ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ويكفينا في هذا الصدد ، أن نعرف الأمر على مستويين :

المستوى الأول :

إن الجهاد ... حيث أنه الوظيفة الإسلامية المشرّغى لغزو العالم غير

الإسلامي ، وإرجاع الأراضي الإسلامية السليبة ، فهو أوسع تطبيقاً من الأمر بالمعروف الذي لا حدود له إلا ما كان داخل المجتمع الإسلامي من إنحراف وعصيان .

ومن هنا يكون ترك الجهاد موجباً لسلب الأمة نتائج أضخم ومكاسب أكبر من النتائج والمكاسب المترتبة على الأمر بالمعروف ، كما هو واضح .

المستوى الثاني :

إن الأمر بالمعروف بمنزلة الفرع أو النتيجة أو المسبب عن الجهاد ... وتركه بمنزلة السبب لوجوبه .

وذلك : أنه لا يجب الأمر بالمعروف في منطقة من العالم ، إلا إذا كانت داخلة ضمن حدود البلاد الإسلامية ، فلا بد أن تكون المنطقة قد دخلت في ضمن هذه الحدود أولاً ، ليجب فيها القيام بتلك الوظيفة ثانياً . والغالب أن يكون دخول البلاد إلى حوزة الإسلام ، بالجهاد المسلح . فيكون الجهاد مقدمة لوجوب الأمر بالمعروف ويكون الأمر بالمعروف نتيجة له . حيث تكفلت الوظيفة الإسلامية ، الأولى استاع بلاد الإسلام . وتكفلت الوظيفة الثانية المحافظة على هذه السعة وضمان تطبيق العدل في البلاد المفتوحة الإسلامية .

وأما إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلاد الإسلامية ... فستبدأ بالإنحدار من حيث الإخلاص والشعور بالمسؤولية ، حتى ينتهي بها الحال أن تغزي في عقر دارها وتكون لقمة سائغة لكل طامع وغاصب . كما قال الإمام الرضا (ع) فيما روي عنه (1): لتأمرون بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليهم شراركم(2). فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم . ويتسبب ذلك أحياناً إلى المنطقة الإسلامية بيد القوات الكافرة المستعمرة ، كما حصل في الأندلس وفلسطين .... فيعود الجهاد واجباً لاسترجاعها .فقد أصبح ترك الأمر بالمعروف سبباً لوجوب الجهاد .
ـــــــــــــــــــ
(1) أنظر الوسائل جـ 2 ص 532 وأنظر نحوه في الترمذي جـ 3 ص 317 ، مروياً عن النبي (ص) .(2 يعني يباشرون الحكم فيكم .

صفحة (324)