فإن الفرد ـ أي فرد ـ قبل حصول ظروف الجهاد ، وقبل تشريعه ، يكون ناقص التكوين
حقيقة ، لا مجاهداً ولا صابراً ، وتكون حالته النفسية واتجاهاته مجملة من حيث
كونه سيتخذ موقف الجهاد عند طرد ظروفه وسيصبر على مسؤولياته أولاً . بمعنى أن
له درجة ما قبل الجهاد ، ولا لعقاب الخارجين على مسؤولياته . ومن ثم قال الله
تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله المجاهدين منكم ويعلم
الصابرين .
وبعد طرد ظروف الجهاد ، يتحدد الموقف الواقعي للفرد ، بأنه مجاهد أو غير مجاهد
، ذلك الموقف الذي يكسب به درجته الجديدة من الكمال أو التسافل .
فإنه قد يكون رد فعله تجاه هذه الظروف منافياً مع تعاليم الإسلام العادلة فيكون
فاشلاً في التمحيص الالهي متسافلاً عن درجته الإيمانية التي كان عليها . وقد
يكون رد فعله تجاه هذه الظروف منسجماً مع تلك التعاليم ، فيكون ناجحاً في هذا
التمحيص ، صاعداً فوق ما كان عليه من درجة الإيمان ، في سلم الكمال .
فإذا تحدد اتجاهه الجديد ، بالجهاد والصبر ، علم الله تعالى ذلك منه ، كعلمه
بالأشياء بعد وجودها ، ويكون الفرد ساعتئذ مستحقاً لثواب المجاهدين .
إذن فليس المراد من نسبة العلم إلى الله في الآية مجرد الانكشاف لاستلزامه نسبة
الجهل إليه قبل ذلك ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . وإنما المراد تغير
الواقع المتمثل في تغير اتجاهات المكلفين ومواقفهم ، فيعلم الله تعالى بتجدد
الوجود عليها وحصول مرتبة الكمال أو التسافل للفرد . وهذا العلم هو المتحقق
بالنسبة إلى الله بأنه سيوجد ، وبعده عالم بأنه وجد ، كما سبق أن عرفنا .
صفحة (265)
وظهرت شهادة الزور واستعلن الفجور ، وقيل البهتان والإثم والطغيان ، وحليت
المصاحف وزخرفت المساجد وطولت المنارة واكرم الأشرار ، وازدحمت الصفوف ،
واختلفت القلوب ، ونقضت العهود ، واقترب الموعود .
وشاركت النساء ازواجهن في التجارة حرصاً على الدنيا ، وعلت أصوات الفساق واستمع
منهم ، وكان زعيم القوم ارذلهم . واتقى الفاجر مخافة شره ، وصدق الكاذب وأئتمن
الخائن ، واتخذت المغنيات ، ونسبت (1) الرجال بالنساء والنساء
بالرجال ، ويشهد الشاهد من غير أن يستشهد . وشهد الآخر (2) قضاء
لذمام لغير حق تعرفه . وتفقه لغير الدين ، وآثروا عمل الدنيا على عمل الآخرة .
لبسوا جلود الضأن على قلوب الذباب (3) ، وقلوبهم أنتن من الجيف وأمر
الصبر ... الحديث .
والأخبار في ذلك مطولة وكثيرة . وأود أن أسرد الحديث الآتي على طوله ، باعتباره
وثيقة مهمة في التاريخ الذين نحن بصدده .
روي في منتخب الأثر (4) عن تفسير الصافي عن تفسير القمي عن ابن عباس
. قال : حججنا مع رسول الله (ص) حجة الوداع ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، ثم أقبل
علينا بوجهه فقال : ألا أخبركم بأشراط الساعة ! .
فكان أدنى الناس منه يؤمئذ سلمان رحمه الله فقال : بلى يا رسول الله .
فقال : إن من أشراط القيامة ، إضاعة الصلوات واتباع الشهوات ، والميل مع
الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال وبيع الدين بالدنيا . فعندما يذاب قلب المؤمن في
جوفه ، كما يذاب الملح في الماء ، مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره .
ــــــــــــــــ
(1)
كذا في
المصدر ، ولعلها : تشبهت .
(2)
هذه
العبارة من رواية " منتخب الأثر " ، ص 428 لهذا الحديث . وأما الخرايج والجرايح
ففيها خطأ مطبعي .(3)
في
منتخب الأثر ـ نفس الصفحة : على قلوب الذئاب .
(4)
ص 432
صفحة (268)
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، إن عندهم يليهم أمراء جورة ،ووزراء فسقة وعرفاء ظلمة وأمناء خونة .
فقال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده ، يا سلمان ، إن عندها يكون المنكر معروفاً ،
والمعروف منكراً ، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ،ويصدق الكاذب ويكذب الصادق .
قال سلمان إن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده و فعندها إمارة النساء ، ومشاورة الأماء ، وقعود
الصبيان على المنابر . ويكون الكذب طرفاً والزكاة مغرماً والفيء مغنماً ، ويجفو
الرجل والديه ويبر صديقه . ويطلع الكوكب المذنب .
قال سلمان : أن هذا لكائين يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده . وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون
المطر فيضاً (1) ويغيض الكرام غيضاً . ويحتقر الرجل المعسر . فعندها
تقارب الاسواق ، إذا قال هذا : لم أبع شيئاً ، وقال هذا : لم أربح شيئاً . فلا
ترى إلا ذاماً لله .
قال سلمان : إن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده ،يا سلمان ، فعندها تليهم أقوام أن تكملوا قتلوهم وإن
سكتوا استباحوهم . ليستأثرون بفيئهم ، وليطأون حريتهم وليسفكن دماءهم ، وليلمؤن
قلوبهم دغلاً ورعباً ، فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من
المغرب يلون أمتي ، فالويل لضعفاء أمتي منهم . والويل لهم من الله ،لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً ولا يتجافون عن مسيء .
ــــــــــــــــــ
(1)
وفي
نسخة : غيضاً .
صفحة (269)
جثتهم جثث الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال (ص) : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان ، وعندها يكتفي الرجال بالرجال
والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها .
وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وتركبن ذوات الفروج السروج ، فعليهن من
أمتي لعنة الله .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب ويلبسون
الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفافاً (1) .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يظر الرب ، ويتعاملون بالعينة
(2) والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا .
قال سلمان : وإن ذلك لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد .
ولن يضروا الله شيئاً .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم
شرار أمتي .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
ــــــــــ
(1)
أي
مستوية مطمئنة والمهاد كونها ملساء . وفي نسخة أخرى : صفاقاً ، أي كثيفة ثخينة
.
(2)
بيع
العينة هو بيع الشيء إلى أجل بزيدة على ثمنه مقابلة انتظار الثمن ( المنجد )
أقول : وهو غير جائز في شرع الإسلام .
صفحة (270)